القائمة الرئيسية

الصفحات

هندسة التكوين: المنهجيات، النماذج، والتطبيقات الحديثة

I. مدخل إلى هندسة التكوين: المفهوم، النشأة، والأهداف الاستراتيجية

1.1. تفكيك مصطلح "هندسة التكوين": التعريفات الأكاديمية والمهنية

تُعرَّف هندسة التكوين بأنها طريقة منهجية ومنظمة تُطبَّق على أنشطة التكوين بهدف تصميم أنظمة وأجهزة فعالة قادرة على تحقيق أهداف محددة بدقة. هي عبارة عن "مجموعة خطوات منهجية منسجمة" تشمل العملية التكوينية بأكملها، بدءاً من تحليل الطلب وتحديد الاحتياجات، مروراً بتصور وتصميم المشروع التكويني، وصولاً إلى التنسيق ومراقبة التنفيذ، وانتهاءً بتقويم النتائج وآثار التكوين.  

إن مصطلح "هندسة" (Engineering) في هذا السياق هو استعارة دقيقة من المجالات الصناعية والعسكرية، حيث يعني التصميم المتقن والتخطيط الذي يتضمن مهارات متعددة لإنتاج شيء متقن. فكما يقوم المهندس الصناعي بتصميم منتج مادي وتنفيذه وتقييمه، يقوم "مهندس التكوين" بتصميم وتنفيذ وتقييم "منتج" تعليمي أو تكويني يهدف إلى تطوير الكفاءات البشرية.  

يجب التمييز بوضوح بين مفهوم "التكوين" ومفهوم "هندسة التكوين". فالتكوين بحد ذاته هو نشاط مخطط يهدف إلى إحداث تغييرات إيجابية في الفرد، سواء على مستوى معلوماته، أدائه، سلوكه، أو اتجاهاته، لجعله ملائماً لشغل وظيفته بكفاءة وإنتاجية عالية. أما هندسة التكوين، فهي المنهجية الشاملة والإطار المنظِّم الذي يضمن أن هذا النشاط يتم بشكل عقلاني، فعال، وموجه نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة. إنها تحوّل التكوين من مجرد نشاط متقطع إلى نظام متكامل ومترابط الحلقات.  

1.2. التطور التاريخي: من السياقات الصناعية والعسكرية إلى محرك لتنمية رأس المال البشري

ظهر مفهوم هندسة التكوين لأول مرة في فرنسا خلال فترة الستينيات، وانتشر كمصطلح متعارف عليه في بداية الثمانينيات. كانت نشأته مدفوعة بسياقات عملية ملحة؛ فمن جهة، استُعيرت المقاربة المنهجية من المجالات العسكرية والصناعية التي تتطلب دقة وكفاءة في إعداد الكوادر. ومن جهة أخرى، برزت الحاجة الماسة لدى الدول حديثة الاستقلال لوضع أنظمة تكوين مهني قادرة على تأهيل كوادرها من إطارات متوسطة وتقنيين ومهندسين في مدة زمنية سريعة لتلبية متطلبات التنمية.  

يمكن تتبع تطور هذا المفهوم عبر مراحل تاريخية متميزة تعكس تغير الأولويات الاقتصادية والاجتماعية :  

  • 1971-1982: تميزت هذه الفترة بالالتزام والمساهمة في التكوين كجزء من السياسات التنموية.
  • 1983-1992: مع تصاعد الأزمات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، تحول التكوين إلى محرك أساسي للتكيف مع متطلبات سوق العمل التنافسي الدولي، مما استدعى تطوير أجهزة تكوينية أكثر تعقيداً.
  • 1999-اليوم: شهدت هذه المرحلة ربطاً وثيقاً بين العمل والتكوين، من خلال ظهور مفاهيم مثل التكوين بالتناوب (alternation learning) والديداكتيك المهنية، التي تدمج التعلم في سياق العمل الفعلي.
  • منذ عام 2000: حدث تحول نوعي نحو ما يسمى بـ "هندسة المسارات" (engineering of pathways) ومبدأ "التكوين مدى الحياة" (Lifelong Learning). لم يعد التكوين مجرد استجابة لحاجة آنية، بل أصبح عملية مستمرة تهدف إلى خلق الظروف المواتية للتعلم قبل وأثناء وبعد العمل.  

يعكس هذا التطور انتقال هندسة التكوين من كونها وظيفة رد فعل (Reactive)، تهدف إلى حل مشكلات قائمة مثل نقص الكوادر أو التكيف مع أزمة، إلى كونها قدرة استراتيجية استباقية (Proactive). هذا التحول يوازي الانتقال الأوسع من الاقتصاد الصناعي، الذي يركز على الإنتاج، إلى اقتصاد المعرفة، الذي يعتبر فيه رأس المال البشري وقدرته على التعلم المستمر الأصل الأكثر قيمة. أصبحت هندسة التكوين اليوم أداة استراتيجية لـ "تحصين المستقبل" (Future-proofing) في المؤسسات، من خلال بناء قدرات مستدامة لمواجهة تحديات غير معروفة بعد.

1.3. الأهداف والغايات: دور هندسة التكوين في تحقيق التميز المؤسسي ومواكبة التغيرات

تتجاوز أهداف هندسة التكوين مجرد نقل المعرفة لتشمل غايات استراتيجية على مستويات متعددة، مما يجعلها وظيفة حيوية لنجاح المؤسسات الحديثة.

  • على مستوى المؤسسة: تهدف هندسة التكوين إلى وضع مخططات شاملة لتنمية الموارد البشرية، وتحسين طرق العمل، وخلق مناخ عمل إيجابي يعزز الانتماء. كما تسعى إلى تطوير الكفاءات الجوهرية للمؤسسة، ورفع مستوى الإنتاجية والمردودية، وتقليل التكاليف من خلال تحسين الأداء وتقليل الأخطاء.  
  • على مستوى الفرد: يساهم التكوين الممنهج في تنمية معارف ومهارات الأفراد، مما يمكنهم من التحكم بشكل أفضل في مهامهم الحالية والمستقبلية. كما أنه يعتبر عاملاً محفزاً يلبي حاجة الفرد للتطور والنمو الشخصي، ويزيد من ثقته بنفسه، ويساعده على اتخاذ قرارات أفضل، ويوفر له فرصاً للتقدم في مساره المهني.  
  • الدور الاستراتيجي: في بيئة عمل تتسم بالتغير السريع والمنافسة الشديدة، لم تعد هندسة التكوين وظيفة إدارية ثانوية، بل أصبحت "ضرورة حتمية" لمواكبة التغيرات التكنولوجية والتنظيمية وضمان بقاء المؤسسة واستمراريتها. إنها تمثل استثماراً استراتيجياً في رأس المال البشري، وهو الأصل القادر على خلق القيمة المضافة وضمان التميز التنافسي.  

II. الإطار النظري لهندسة التكوين: الأندراغوجيا والمقاربة بالكفايات

2.1. الأندراغوجيا: فهم خصائص المتعلم البالغ وتطبيق مبادئ "مالكولم نولز"

تستند هندسة التكوين الفعالة على فهم عميق لكيفية تعلم البالغين، وهو ما يعرف بـ "الأندراغوجيا" (Andragogy)، أي فن وعلم تعليم البالغين، وذلك في مقابل "البيداغوجيا" (Pedagogy) التي تركز على تعليم الأطفال. وضع المنظّر التربوي مالكولم نولز (Malcolm Knowles) إطاراً نظرياً يحدد الخصائص الأساسية للمتعلم البالغ، والتي يجب على مهندسي التكوين مراعاتها.  

تتمثل افتراضات نولز الخمسة حول المتعلم البالغ فيما يلي :  

  1. المفهوم الذاتي (Self-Concept): مع النضج، ينتقل الفرد من كونه شخصية اتكالية إلى كائن بشري يمتلك توجيهاً ذاتياً، ويرغب في تحمل مسؤولية تعلمه.
  2. الخبرة (Experience): يمتلك البالغون مخزوناً متزايداً من الخبرات الحياتية والمهنية، والتي تشكل مصدراً غنياً للتعلم لهم ولأقرانهم.
  3. الاستعداد للتعلم (Readiness to Learn): يكون البالغون أكثر استعداداً لتعلم الموضوعات التي لها صلة مباشرة بأدوارهم الاجتماعية والمهنية.
  4. توجه التعلم (Orientation to Learning): يتغير منظورهم من التركيز على اكتساب المعرفة لتطبيقها لاحقاً إلى الرغبة في تطبيقها بشكل فوري لحل المشكلات التي يواجهونها. لهذا، يتحول توجههم من التركيز على "الموضوع" إلى التركيز على "المشكلة" (Problem-centered).
  5. الدافعية للتعلم (Motivation to Learn): تنبع دوافع البالغين للتعلم بشكل أساسي من محفزات داخلية، مثل الرغبة في التطور المهني، زيادة الرضا الوظيفي، وتحقيق الذات.

بناءً على هذه الافتراضات، يجب أن تستند برامج تكوين الكبار إلى أربعة مبادئ تطبيقية أساسية لضمان فعاليتها: إشراك المتدربين في تخطيط وتقييم تكوينهم، استخدام خبراتهم كأساس لأنشطة التعلم، التركيز على الموضوعات ذات الصلة المباشرة بحياتهم وعملهم، وتصميم التعلم ليكون متمحوراً حول حل المشكلات بدلاً من المحتوى النظري المجرد. فالبالغون يتعلمون بشكل أفضل من خلال التطبيق والمشاركة والنقاش، وليس من خلال الحفظ والتلقين السلبي.  

2.2. المقاربة بالكفايات: التحول من نقل المعرفة إلى بناء القدرات المهنية القابلة للتطبيق

ظهرت المقاربة بالكفايات (Competency-Based Approach) في مجال التكوين التقني والمهني كرد فعل على قصور المناهج التقليدية التي كانت تركز على نقل المعرفة بشكل مجزأ ومنفصل عن سياق التطبيق. تعتمد هذه المقاربة على "منطق التعلم" بدلاً من "منطق التعليم"، حيث يصبح الهدف ليس فقط "ماذا يعرف" المتدرب، بل "ماذا يستطيع أن يفعل" بما يعرفه.  

تُعرَّف "الكفاية" بأنها القدرة على التوظيف المدمج لمجموعة من المعارف والمهارات والسلوكيات لمواجهة وضعيات مهنية معقدة وحل المشكلات بفعالية. الهدف النهائي هو تمكين الفرد من "التصرف" بكفاءة في مواقف عمل حقيقية خارج بيئة التكوين.  

تتميز هذه المقاربة في هندسة التكوين بمبدأين أساسيين :  

  1. تنظيم برامج التكوين انطلاقاً من الكفاءات المستهدفة: يتم تصميم المنهج بأكمله بناءً على تحليل الكفاءات المطلوبة للنجاح في وظيفة معينة أو دور محدد.
  2. وصف الكفاءات بنتائج ومعايير أداء قابلة للقياس: يتم تحديد الكفاءات من خلال مؤشرات سلوكية قابلة للملاحظة والتقييم، مما يسهل قياس أثر التكوين بشكل موضوعي.

2.3. التكامل بين النظريات: كيف تشكل هذه الأطر أساس تصميم البرامج الفعالة

إن التقارب بين الأندراغوجيا والمقاربة بالكفايات ليس مجرد توافق نظري، بل هو ضرورة استراتيجية لتحقيق أقصى عائد على الاستثمار في التكوين. فبينما تحدد المقاربة بالكفايات "ماذا" يجب أن يتعلمه المتدرب (الكفاءات المطلوبة تنظيمياً)، تحدد الأندراغوجيا "كيف" يمكن تحقيق هذا التعلم بفعالية لدى البالغين.

إن تجاهل مبادئ تعلم الكبار يؤدي حتماً إلى فشل برامج التكوين، حتى لو كانت مصممة بدقة وفقاً لإطار الكفاءات. على سبيل المثال، برنامج يهدف إلى تطوير كفاية "حل النزاعات" (وهو هدف سلوكي) ولكنه يُقدَّم على شكل محاضرة نظرية (تجاهل لمبدأ التعلم بالتجربة وحل المشكلات)، سيفشل في إحداث تغيير سلوكي حقيقي في مكان العمل (المستوى الثالث من نموذج كيركباتريك للتقييم). وبالتالي، يصبح تطبيق إطار الكفاءات معتمداً بشكل سببي على تطبيق المبادئ الأندراغوجية. هذا الترابط يحول النظريتين من إطارين منفصلين إلى نظام متكامل، حيث تمكّن إحداهما الأخرى، ويفرض على مهندس التكوين أن يكون خبيراً في التحليل التنظيمي (لتحديد الكفاءات) وعلم النفس التربوي للبالغين (لتصميم تجارب تعلم فعالة).

III. منهجية هندسة التكوين: المراحل والنماذج التطبيقية

3.1. السيرورة العامة لهندسة التكوين: نظرة شاملة على الدورة الكاملة

تُمثَّل عملية هندسة التكوين كمنظومة متكاملة وديناميكية تتكون من مجموعة حلقات مترابطة، وليست مجرد سلسلة من الإجراءات المنفصلة. تبدأ هذه السيرورة من تحديد السياسة العامة للتكوين في المؤسسة، وتمر عبر أربع مراحل رئيسية متتالية ومتفاعلة تضمن تحقيق الأهداف بكفاءة :  

  1. مرحلة التحليل والتشخيص: تنطلق من رصد وتحليل طلبات واحتياجات التكوين على مختلف المستويات (التنظيمية، الوظيفية، الفردية).
  2. مرحلة التصميم والتخطيط: يتم فيها تصور مشروع التكوين وتصميم البرنامج الذي يستجيب للاحتياجات المشخصة.
  3. مرحلة التنفيذ والتنسيق: تشمل هذه المرحلة التجسيد الفعلي لخطة التكوين وإدارة جميع جوانبها اللوجستية والبيداغوجية.
  4. مرحلة التقويم والمتابعة: يتم فيها تقويم مختلف الأنشطة والنتائج في جميع المراحل لقياس الأثر وتحديد نقاط القوة والضعف، وتعتبر هذه المرحلة تغذية راجعة لتحسين الدورات المستقبلية.

يجب النظر إلى هذه المراحل كعملية مستمرة ومتكاملة مع نظام معلومات الموارد البشرية في المؤسسة، وليست كعملية مؤقتة تنتهي بانتهاء برنامج تكويني معين.  

3.2. نموذج ADDIE كإطار عمل متكامل: تحليل معمق لمراحله الخمس

يُعد نموذج ADDIE أحد أشهر نماذج التصميم التعليمي (Instructional Systems Design - ISD) وأكثرها استخداماً في هندسة التكوين، نظراً لبساطته وشموليته. تم تطويره في جامعة ولاية فلوريدا عام 1975 لمشروع تابع للجيش الأمريكي، واسمه هو اختصار لمراحله الخمس.  

المراحل الخمس لنموذج ADDIE:

  1. التحليل (Analysis): هذه هي مرحلة الأساس والتشخيص. يتم فيها تحديد المشكلة التي يسعى التكوين لحلها، وتحديد الأهداف التعليمية العامة، وتحليل خصائص الجمهور المستهدف (معارفهم السابقة، دوافعهم)، وتحديد الموارد المتاحة والقيود الزمنية والمادية.  
  2. التصميم (Design): بناءً على مخرجات مرحلة التحليل، يتم في هذه المرحلة وضع المخططات التفصيلية للبرنامج. تشمل هذه المرحلة صياغة الأهداف الإجرائية القابلة للقياس، وتحديد استراتيجيات التعلم والتقييم، واختيار الوسائط التعليمية المناسبة، وتصميم هيكل المحتوى، وكتابة السيناريو التعليمي (Storyboard) الذي يصف تسلسل الأنشطة والمحتوى.  
  3. التطوير (Development): في هذه المرحلة، يتم تحويل المخططات والسيناريوهات من مرحلة التصميم إلى مواد تعليمية فعلية. يشمل ذلك إنتاج مقاطع الفيديو، وتسجيل الصوت، وتصميم الرسومات والعناصر التفاعلية، وبرمجة الوحدات التعليمية الإلكترونية، وإعداد أدلة المدرب والمتدرب.  
  4. التنفيذ (Implementation): هي مرحلة تقديم البرنامج التدريبي للمتعلمين. تتضمن هذه المرحلة إعداد المدربين، وتهيئة بيئة التعلم (سواء كانت واقعية أو افتراضية)، وإدارة العملية التدريبية لضمان وصول المحتوى بفعالية.  
  5. التقويم (Evaluation): يتم في هذه المرحلة قياس مدى كفاءة وفعالية البرنامج التكويني. ويشمل التقويم نوعين رئيسيين: التقويم التكويني (Formative Evaluation) الذي يتم بشكل مستمر خلال جميع مراحل النموذج بهدف التحسين والتطوير، والتقويم الختامي (Summative Evaluation) الذي يتم بعد مرحلة التنفيذ لقياس مدى تحقيق الأهداف المحددة.  

على الرغم من أن النموذج يُعرض غالباً بشكل خطي، إلا أنه في تطبيقه الحديث أصبح أكثر ديناميكية وتفاعلية. فنتائج مرحلة التقويم لا تمثل نهاية العملية، بل هي مدخلات أساسية تغذي دورة جديدة من التحليل والتحسين المستمر، مما يجعل النموذج ذا طبيعة دورية.  

3.3. مقارنات مفاهيمية: توضيح الفروقات الجوهرية

لتجنب الخلط المفاهيمي الشائع في هذا المجال، من الضروري توضيح الفروقات الدقيقة بين المصطلحات الرئيسية.

  • هندسة التكوين مقابل الهندسة البيداغوجية: هندسة التكوين هي الإطار الاستراتيجي الشامل (الماكرو)، الذي يهتم بتصميم "نظام" التكوين بأكمله كاستجابة لحاجة مؤسسية. يشمل ذلك تحليل الطلب، تحديد السياسات، تخطيط الموارد، وربط التكوين بأهداف العمل. في المقابل، تُعنى الهندسة البيداغوجية بالمستوى التكتيكي (الميكرو)، حيث تركز على تصميم "عملية" التعلم داخل البرنامج نفسه. هدفها هو دراسة وتكييف الطرائق والوسائل البيداغوجية (مثل الأنشطة، أساليب التفاعل، أدوات التقييم) لتمكين المتكونين من تحقيق أهداف التعلم المحددة بفعالية.  
  • هندسة التكوين مقابل التصميم التعليمي: العلاقة هنا هي علاقة الكل بالجزء. هندسة التكوين هي المنظومة الأوسع التي تحدد "لماذا" و"ماذا" يجب أن يتم التكوين. أما التصميم التعليمي، الذي يمثله نموذج ADDIE، فهو المنهجية العملية التي تجيب على "كيف" يتم تصميم وتطوير هذا التكوين. يمكن اعتبار التصميم التعليمي هو مجموعة الأدوات والعمليات التي يستخدمها مهندس التكوين لتنفيذ رؤيته وتحويلها إلى برامج ومواد تعليمية ملموسة.  

يوضح الجدول التالي هذه الفروقات بشكل منهجي لتوفير مرجع واضح للممارسين والباحثين.


IV. تحليل الاحتياجات التكوينية (TNA): حجر الزاوية في بناء البرامج الفعالة

4.1. أهمية ومستويات تحليل الاحتياجات

يُجمع الخبراء على أن تحليل الاحتياجات التكوينية (Training Needs Analysis - TNA) هو "الخطوة الأساسية" و"المرحلة المفصلية" في كامل عملية هندسة التكوين. إن أي برنامج تكويني لا ينبني على تحليل دقيق للاحتياجات محكوم عليه بالفشل أو، في أحسن الأحوال، بعدم تحقيق الفعالية المرجوة، مما يؤدي إلى هدر كبير في الموارد والوقت. يُعرَّف الاحتياج التكويني بأنه "الفجوة" (Gap) بين مستوى الكفاءات والأداء الحالي للموظفين والمؤسسة، والمستوى المطلوب لتحقيق الأهداف المحددة.  

لضمان شمولية التشخيص، يتم إجراء التحليل على ثلاثة مستويات متكاملة :  

  1. التحليل التنظيمي (Organizational Analysis): يركز هذا المستوى على المؤسسة ككل. يتم من خلاله دراسة الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة، مواردها المتاحة، مناخ العمل، والمؤشرات التنظيمية (مثل معدلات الإنتاجية، شكاوى العملاء، دوران العمالة) لتحديد المجالات التي يمكن للتكوين أن يساهم في تحسينها ودعم التوجهات المستقبلية.
  2. تحليل المهام/الوظائف (Task/Job Analysis): يهتم هذا المستوى بدراسة الوظائف والمهام نفسها، بغض النظر عمن يشغلها. يتم من خلاله تحديد المعارف، المهارات، والقدرات المطلوبة لأداء كل وظيفة بكفاءة، مما يساعد في تحديد محتوى البرامج التكوينية بدقة.
  3. التحليل الفردي (Person Analysis): يركز هذا المستوى على الموظفين الأفراد. يهدف إلى تحديد الموظفين الذين يحتاجون إلى تكوين، وقياس مستوى أدائهم الحالي مقارنة بالمعايير المطلوبة، وتحديد الفجوات في مهاراتهم ومعارفهم.

4.2. أدوات وتقنيات جمع البيانات

يعتمد نجاح تحليل الاحتياجات على اختيار الأدوات والتقنيات المناسبة لجمع بيانات دقيقة وموثوقة. لا توجد أداة واحدة مثالية، وغالباً ما يتم استخدام مزيج من الأدوات الكمية والكيفية للحصول على صورة متكاملة.   





4.3. ترجمة الاحتياجات إلى أهداف تكوينية قابلة للقياس

بعد جمع البيانات وتحليلها وتحديد أولويات الاحتياجات، تأتي الخطوة الحاسمة وهي ترجمة هذه الاحتياجات إلى أهداف تكوينية واضحة ومحددة وقابلة للقياس. الهدف التكويني الجيد هو "بيان يصف التغيير المقترح في المتدرب، والحالة التي سيكون عليها عندما يتم البرنامج بنجاح". يجب أن تكون هذه الأهداف سلوكية، أي تصف سلوكاً يمكن ملاحظته وقياسه، مما يسهل لاحقاً عملية تقييم أثر التكوين بشكل موضوعي.  

V. تصميم وتنفيذ برامج التكوين: من الفكرة إلى الواقع

5.1. مبادئ تصميم المناهج التكوينية وتطوير المحتوى

تعتبر مرحلة التصميم هي الجسر الذي يربط بين تشخيص الاحتياجات والتنفيذ الفعلي. يجب أن يُبنى تصميم أي برنامج تكويني بشكل مباشر على ضوء نتائج تحليل الاحتياجات والأهداف السلوكية التي تم تحديدها مسبقاً. المبدأ الأساسي هنا هو ضمان التوافق التام بين المشكلة، الهدف، والمحتوى.  

عند بناء المحتوى، يتم تفصيل المهارات والمعارف المطلوبة لتحقيق كل هدف سلوكي. بعد ذلك، يتم ترتيب الموضوعات والوحدات التعليمية وفق مداخل منهجية تضمن تسلسلاً منطقياً وفعالاً للتعلم. من هذه المداخل :  

  • المدخل السيكولوجي: ترتيب المحتوى من السهل إلى الصعب، أو من المألوف إلى الجديد، لتسهيل عملية الاستيعاب وبناء الثقة لدى المتدرب.
  • المدخل المنطقي: ترتيب المحتوى وفقاً لبنيته المنطقية الداخلية، مثل الانتقال من المبادئ العامة إلى التطبيقات الخاصة.
  • مدخل تسلسل الأداء: ترتيب المحتوى ليعكس الترتيب الفعلي لأداء المهام في بيئة العمل الواقعية، وهو ما يعزز قابلية نقل المهارات.

كما أن إشراك الأطراف المعنية، خاصة المتدربين والمكونين (المدربين) المحتملين، في عملية التصميم والتخطيط يعد من الممارسات الفضلى، حيث يضمن أن يكون المحتوى ملائماً وواقعياً، ويزيد من درجة تقبلهم والتزامهم بالبرنامج.  

5.2. اختيار أساليب التكوين: الموازنة بين التدريب الحضوري، الإلكتروني، والمدمج

إن اختيار أسلوب التكوين ليس قراراً لوجستياً فحسب، بل هو قرار بيداغوجي استراتيجي يؤثر بشكل مباشر على فعالية التعلم. لا يوجد أسلوب واحد يمكن اعتباره الأفضل في جميع المواقف؛ فالفعالية تعتمد على مدى ملاءمة الأسلوب لعدة معايير، أهمها: الهدف من التكوين، طبيعة المحتوى (نظري أم عملي)، خصائص المتدربين (مستواهم، دوافعهم)، والموارد المتاحة (الوقت، الميزانية، التكنولوجيا).  

إن هذا الاختيار هو تطبيق مباشر للأطر النظرية التي نوقشت سابقاً. على سبيل المثال، إذا كان الهدف هو تطوير "كفاية" سلوكية تتطلب ممارسة وتفاعلاً (مثل القيادة أو التفاوض)، فإن اختيار أسلوب سلبي مثل المحاضرة النظرية يتعارض بشكل مباشر مع مبادئ "الأندراغوجيا" (التي تؤكد على التعلم بالتجربة) ومع جوهر "المقاربة بالكفايات" (التي تركز على القدرة على الأداء). هذا التناقض يضمن فشل البرنامج في تحقيق تغيير سلوكي حقيقي، وبالتالي هدر الاستثمار. لذا، يجب على مهندس التكوين أن يربط بشكل منهجي بين نوع الكفاية المستهدفة والأسلوب الأنسب لها.

تشمل الأساليب الشائعة ما يلي:

  • التكوين داخل المؤسسة: يتميز بقلة التكلفة، المرونة، والتركيز على مشكلات العمل الفعلية، ولكنه قد يفتقر إلى تبادل الخبرات الخارجية.  
  • التكوين خارج المؤسسة: يتيح فرصة لتبادل الخبرات والوصول إلى إمكانيات ومرافق متخصصة، ولكنه أعلى تكلفة وأصعب في المراقبة والتقييم.  
  • الأساليب الجماعية التقليدية: مثل المحاضرات، الندوات، دراسات الحالة، وتمثيل الأدوار، وهي فعالة في بناء المعرفة وتطوير المهارات التفاعلية.  
  • الأساليب الحديثة: تشمل التكوين الإلكتروني (E-learning)، والتكوين عن بعد، والمحاكاة (Simulation)، والتي توفر مرونة عالية وقدرة على تكرار سيناريوهات معقدة أو خطيرة في بيئة آمنة.  

5.3. أفضل الممارسات في تنفيذ ومتابعة خطة التكوين

التنفيذ الناجح هو ترجمة التخطيط الدقيق إلى واقع ملموس. يتطلب ذلك إدارة محكمة لعدة جوانب:

  • التخطيط اللوجستي: ويشمل إعداد جدول زمني مفصل للبرنامج، واختيار مكان التدريب الملائم وتجهيزه، وتوفير جميع المواد والمستلزمات الضرورية للمدربين والمتدربين.  
  • إدارة العملية التدريبية: تتضمن هذه المرحلة متابعة حضور والتزام المتدربين، وتوفير الدعم اللازم للمدربين، وخلق بيئة تعليمية إيجابية ومحفزة تشجع على المشاركة والتفاعل. يجب احترام الفروق الفردية بين المتدربين ومساعدتهم في حل أي مشكلات قد تواجههم.  
  • المتابعة والتقييم المستمر: لا تنتهي مسؤولية إدارة التكوين ببدء البرنامج. فالمتابعة اليومية والمستمرة لتنفيذ الخطة، وتقييم الأداء بشكل منتظم، وجمع التغذية الراجعة الفورية، كلها عناصر حاسمة لضمان تحقيق الأهداف المرجوة وإجراء أي تعديلات ضرورية في الوقت المناسب.  

VI. تقويم أثر التكوين وقياس العائد على الاستثمار (ROI)

6.1. نموذج كيركباتريك (Kirkpatrick) لتقييم التدريب: تطبيق المستويات الأربعة

يُعد تقييم أثر التكوين خطوة حيوية لقياس فعالية البرامج وتبرير الاستثمار فيها. ويعتبر نموذج كيركباتريك (Kirkpatrick Model) أحد أشهر الأطر المنهجية المستخدمة عالمياً لتقييم التدريب بشكل شامل ومتدرج. يقترح النموذج أربعة مستويات للتقييم، كل مستوى يبني على الذي يسبقه ويوفر رؤية أعمق لأثر التدريب.   





من أهم الممارسات الفضلى عند تطبيق هذا النموذج هو "البدء من النهاية"، أي تحديد النتائج المرجوة (المستوى الرابع) أولاً، ثم العمل بشكل عكسي لتحديد السلوكيات المطلوبة لتحقيقها (المستوى الثالث)، ثم المعارف والمهارات اللازمة لتلك السلوكيات (المستوى الثاني)، وأخيراً تصميم تجربة تدريبية إيجابية (المستوى الأول).  

6.2. منهجية قياس العائد على الاستثمار: تحويل نتائج التكوين إلى قيمة نقدية

يمثل قياس العائد على الاستثمار (Return on Investment - ROI) المستوى الأعلى من التقييم، حيث يسعى إلى التعبير عن قيمة التكوين بلغة مالية مفهومة للإدارة العليا. يُعرَّف العائد على الاستثمار بأنه مقياس مالي يقارن بين الفوائد النقدية الناتجة عن برنامج التكوين والتكاليف الإجمالية لهذا البرنامج.  

تُستخدم المعادلة الأساسية التالية لحساب العائد على الاستثمار :  

ROI(%)=تكلفة التكوين(العائد الصافي من التكوين−تكلفة التكوين)×100



تتضمن عملية الحساب خطوات منهجية:

  1. تحديد تكاليف البرنامج: تشمل جميع التكاليف المباشرة وغير المباشرة، مثل أجور المدربين، تكلفة تطوير المواد، تكاليف السفر والإقامة، وتكلفة وقت المتدربين الذي قضوه بعيداً عن عملهم.  
  2. قياس الفوائد (النتائج): يتم ذلك من خلال جمع البيانات المتعلقة بمؤشرات الأداء في المستوى الرابع من نموذج كيركباتريك (مثل زيادة الإنتاج، توفير الوقت، تقليل الأخطاء).
  3. تحويل الفوائد إلى قيمة نقدية: هذه هي الخطوة الأكثر تحدياً، حيث تتطلب ترجمة التحسن في الأداء إلى قيمة مالية. على سبيل المثال، يمكن حساب قيمة الزيادة في الإنتاج أو قيمة الوقت الذي تم توفيره.  
  4. حساب العائد على الاستثمار: يتم تطبيق المعادلة أعلاه للحصول على نسبة مئوية.

لأخذ البعد الزمني في الاعتبار، يمكن استخدام مقياس "العائد السنوي على الاستثمار"، الذي يوفر صورة أكثر دقة عن أداء الاستثمار على مدى فترة زمنية معينة، مما يسهل مقارنته بالاستثمارات الأخرى.  

6.3. تحديات قياس الأثر واستراتيجيات التغلب عليها

تواجه عملية قياس أثر التكوين، وخاصة العائد على الاستثمار، تحديات كبيرة. من أبرز هذه التحديات صعوبة "عزل" آثار التدريب عن العوامل الأخرى التي قد تؤثر على الأداء (مثل التغيرات في السوق، أو إدخال تكنولوجيا جديدة)، بالإضافة إلى صعوبة تحويل الفوائد غير الملموسة (مثل تحسين الروح المعنوية أو تعزيز العمل الجماعي) إلى قيمة نقدية دقيقة.  

للتغلب على هذه التحديات، يمكن للمؤسسات اتباع استراتيجيات متقدمة مثل استخدام "مجموعات المراقبة" (Control Groups) التي لا تتلقى التدريب لمقارنة أدائها مع المجموعة التي تلقت التدريب. كما أن جمع بيانات دقيقة وموثوقة قبل وبعد التدريب، واستخدام تقنيات التحليل الإحصائي، يساعدان في تحديد العلاقة بين التدريب والأداء بشكل أكثر علمية.  

VII. مستقبل هندسة التكوين: التقنيات الناشئة والتوجهات الحديثة

إن التحولات التكنولوجية المتسارعة لا تغير فقط طبيعة العمل، بل تعيد تشكيل هندسة التكوين نفسها. إن ظهور تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، الواقع الافتراضي، والتعلم المصغر لا يضيف مجرد أدوات جديدة إلى صندوق أدوات مهندس التكوين، بل يغير دوره بشكل جذري. لم يعد الدور مقتصراً على "إنشاء محتوى" وتقديمه ضمن دورة تدريبية منظمة وفق نموذج مثل ADDIE. بل أصبح الدور أقرب إلى "مهندس تجربة التعلم" (Learning Experience Architect)، الذي يصمم ويشرف على منظومة تعلم متكاملة، ديناميكية، ومخصصة.

7.1. الذكاء الاصطناعي (AI): دوره في تخصيص مسارات التعلم وتحليل البيانات

يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في مستقبل التكوين من خلال قدرته على إحداث نقلة نوعية في التخصيص والتحليل.

  • تخصيص مسارات التعلم: يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحليل أداء المتدرب وتفاعلاته بشكل فوري، وتقديم محتوى ومسارات تعلم مخصصة تتلاءم مع احتياجاته الفردية وسرعة تعلمه. هذا يحول التعلم من تجربة موحدة للجميع إلى رحلة شخصية لكل متدرب.  
  • تحليل البيانات ودعم القرار: تتيح قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات هائلة من البيانات (بيانات الأداء، بيانات سوق العمل، إلخ) تحديد الاحتياجات التكوينية المستقبلية بدقة أكبر، والتنبؤ بالمهارات المطلوبة، ودعم اتخاذ قرارات استراتيجية أكثر استنارة فيما يتعلق بالاستثمار في رأس المال البشري.  
  • التكوين في مجال الذكاء الاصطناعي: بالإضافة إلى دوره كأداة، أصبح الذكاء الاصطناعي نفسه موضوعاً رئيسياً للتكوين. فالطلب المتزايد على مهندسي الذكاء الاصطناعي، علماء البيانات، وخبراء تعلم الآلة يجعل من تصميم برامج تكوينية في هذا المجال أولوية استراتيجية للمؤسسات والمجتمعات.  

7.2. الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR): خلق بيئات تدريبية غامرة وآمنة

توفر تقنيات الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) إمكانيات ثورية لإنشاء تجارب تدريبية غامرة وفعالة، خاصة في المجالات التي تتطلب مهارات عملية أو تنطوي على مخاطر عالية.

  • الفوائد الرئيسية:
    • بيئة آمنة للممارسة: تسمح للمتدربين بممارسة إجراءات معقدة أو خطيرة (مثل العمليات الجراحية، صيانة الطائرات، التعامل مع أعطال المعدات) دون أي مخاطر حقيقية.  
    • زيادة فعالية التعلم: أظهرت الدراسات أن التدريب باستخدام الواقع الافتراضي يمكن أن يكون أسرع بما يصل إلى أربع مرات من التدريب التقليدي في الفصول الدراسية، مع زيادة تركيز المتدربين بشكل كبير.  
    • تحسين الاحتفاظ بالمعلومات: تصل نسبة الاحتفاظ بالمعرفة في التدريب القائم على الواقع الافتراضي إلى 75%، مقارنة بـ 5% فقط في المحاضرات التقليدية، وذلك بفضل الطبيعة التجريبية والغامرة للتعلم.  
  • التطبيقات العملية: تستخدم شركات عالمية مثل طيران الإمارات، أرامكو السعودية، وشركة الكهرباء السعودية هذه التقنية لتدريب موظفيها على سيناريوهات واقعية، بدءاً من خدمة العملاء وصولاً إلى التعامل مع حالات الطوارئ.  
  • التحديات: على الرغم من فوائدها، لا تزال هناك تحديات تواجه تبني هذه التقنية، أبرزها التكلفة الأولية المرتفعة للحصول على الأجهزة والبرامج، والحاجة إلى خبرات تقنية متخصصة لتطوير المحتوى.  

7.3. التعلم المصغر (Micro-learning) والتكوين المخصص: الاستجابة لمتطلبات بيئة العمل السريعة

استجابةً لبيئة العمل الحديثة التي تتسم بالسرعة وضيق الوقت، برز مفهوم التعلم المصغر كحل فعال لتقديم التكوين بطريقة مرنة ومناسبة.

  • تعريف التعلم المصغر: هو نهج يقدم المحتوى التعليمي في شكل وحدات صغيرة، مركزة، ومستقلة، تتراوح مدتها عادة بين 2 و 15 دقيقة. تم تصميم هذه الوحدات لتكون متاحة عند الحاجة (Just-in-time)، مما يسمح للموظفين بالوصول إلى المعلومة التي يحتاجونها بالضبط في اللحظة التي يحتاجونها فيها.  
  • المزايا: يتميز هذا النهج بزيادة تفاعل المتعلمين، وتحسين قدرتهم على الاحتفاظ بالمعلومات، وتوافقه التام مع الأجهزة المحمولة، مما يجعله مثالياً للموظفين المشغولين. كما أنه يسهل تخصيص مسارات التعلم لتلبية الاحتياجات الفردية.  
  • التطبيقات: يمكن أن يأخذ التعلم المصغر أشكالاً متعددة، مثل مقاطع فيديو قصيرة، ملخصات نصية، رسوم بيانية تفاعلية (Infographics)، اختبارات سريعة، أو حلقات بودكاست.  

VIII. دراسات حالة وتطبيقات عملية في بيئات العمل

8.1. تحليل تطبيقات هندسة التكوين في شركات كبرى

إن تطبيق مبادئ هندسة التكوين ليس مجرد نظرية أكاديمية، بل هو ممارسة حيوية تتبناها المؤسسات الرائدة في مختلف القطاعات لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.

  • قطاع الطاقة: تُظهر دراسة ميدانية أُجريت في المؤسسة الوطنية للمحروقات "سوناطراك" بالجزائر أهمية دور هندسة التكوين في تحسين أداء الموارد البشرية. ومع ذلك، أشارت الدراسة إلى أن تأثير التكوين كان متوسطاً، مما يسلط الضوء على ضرورة إعادة النظر المستمر في كيفية تصميم وتقييم البرامج لضمان تحقيق الأهداف المرجوة في بيئة صناعية معقدة ومتغيرة.  
  • قطاع الطيران والخدمات: تُعد شركات الطيران العالمية، مثل الخطوط الجوية السعودية وطيران الإمارات، من أبرز الأمثلة على تطبيق هندسة التكوين المتقدمة. فهي تستخدم أحدث التقنيات مثل المحاكاة والواقع الافتراضي لتدريب الطيارين وطواقم الضيافة على مجموعة واسعة من السيناريوهات، بدءاً من إجراءات السلامة المعقدة وصولاً إلى التعامل مع الحالات الطارئة وتقديم خدمة عملاء استثنائية، مما يضمن أعلى معايير الأداء والسلامة.  
  • قطاع التصنيع: تُظهر دراسات الحالة التي أُجريت على شركات الإسمنت أن هناك علاقة ذات دلالة إحصائية بين تسيير وتطوير الكفاءات وتحقيق الأداء المتميز للمنظمة. هذه الدراسات تؤكد أن الاستثمار في رأس المال البشري وتطوير كفاءاته يلعب دوراً محورياً في تحقيق التميز التنافسي في القطاع الصناعي.  

8.2. دراسة حالات محددة في تطوير الكفاءات

تركز هندسة التكوين على تطوير أنواع مختلفة من الكفاءات، سواء كانت قيادية أو تقنية، باستخدام أدوات ومنهجيات متنوعة.

  • تطوير الكفاءات القيادية (المهارات الناعمة): تُظهر دراسة حالة لتطوير الكفاءات العامة للموظفين في القطاع الحكومي في إحدى دول الخليج أهمية التركيز على المهارات غير المهنية (Soft Skills) للقادة والمتخصصين. حيث تم تصميم برنامج تكويني مختلط (يجمع بين ورش العمل الحضورية والتعلم الرقمي) لتطوير كفاءات أساسية مثل الذكاء العاطفي، بناء العلاقات، التخطيط والتنفيذ، وإدارة المخاطر، بهدف بث ثقافة الابتكار وتحسين الأداء المؤسسي.  
  • تطوير الكفاءات التقنية (المهارات الصلبة): تُعد برامج الشهادات المهنية الاحترافية أداة رئيسية في هندسة التكوين لضمان امتلاك الموظفين للمهارات التقنية المحدثة والمعتمدة. ففي المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، يتم الاعتماد على شهادات معترف بها دولياً مثل CompTIA في الأمن السيبراني، و Certified Scrum Master (CSM) في إدارة المشاريع الرشيقة، و TOGAF في هندسة المؤسسات، كجزء من استراتيجية تطوير الكفاءات التقنية في القطاعين العام والخاص.  

8.3. استخلاص الدروس المستفادة من التطبيق العملي

من خلال تحليل هذه التطبيقات، يمكن استخلاص درسين أساسيين لنجاح أي مبادرة تكوينية. أولاً، لا يوجد حل واحد يناسب الجميع؛ فنجاح هندسة التكوين يعتمد على القدرة على تكييف المبادئ والنماذج العامة لتناسب السياق الخاص بكل مؤسسة وقطاع صناعي. ثانياً، يجب أن يكون التكوين مرتبطاً بشكل مباشر وواضح بالمسار الوظيفي للموظف، بما في ذلك الترقيات والمكافآت. فبدون هذا الربط، يقع الموظفون والمؤسسة في "مصيدة الكفاءة"، حيث يتم تطوير كفاءات لا تُستغل أو تُكافأ، مما يؤدي إلى الإحباط وتراجع الدافعية.  

IX. خلاصة وتوصيات استراتيجية

9.1. تلخيص شامل للمبادئ والمنهجيات الأساسية لهندسة التكوين

أن هندسة التكوين هي أكثر من مجرد عملية تنظيم دورات تدريبية؛ إنها مقاربة منهجية، منظمة، واستراتيجية تهدف إلى تصميم وتنفيذ وتقييم أنظمة تكوين فعالة. تبدأ هذه العملية من التحليل الدقيق للاحتياجات المتوافقة مع أهداف المؤسسة، وتستند إلى أطر نظرية راسخة مثل الأندراغوجيا والمقاربة بالكفايات. وتستخدم نماذج عملية مثل ADDIE لضمان سير العملية بشكل منطقي ومتكامل، وتنتهي بتقييم شامل للأثر يقيس العائد على الاستثمار. في ظل بيئة العمل المعاصرة، لم تعد هندسة التكوين خياراً، بل أصبحت ضرورة حتمية لبقاء المؤسسات ونموها وتطورها.

9.2. توصيات للمؤسسات لتبني نهج استراتيجي في هندسة التكوين

بناءً على التحليل المقدم، يمكن تقديم التوصيات الاستراتيجية التالية للمؤسسات التي تسعى إلى تعظيم قيمة استثماراتها في رأس المال البشري:

  1. ربط استراتيجية التكوين بالأهداف الاستراتيجية للمؤسسة: يجب أن تكون خطة التكوين جزءاً لا يتجزأ من الخطة الاستراتيجية الشاملة للمؤسسة. ينبغي أن تبدأ عملية التخطيط للتكوين بالإجابة على سؤال: "ما هي الكفاءات التي تحتاجها المؤسسة لتحقيق أهدافها المستقبلية؟".
  2. الاستثمار في تحليل دقيق ومستمر للاحتياجات التكوينية: يجب تخصيص الموارد الكافية لإجراء تحليل شامل للاحتياجات على المستويات الثلاثة (التنظيمي، الوظيفي، الفردي) بشكل دوري، لضمان توجيه جهود التكوين نحو الفجوات الأكثر أهمية وتأثيراً.
  3. تبني ثقافة التقييم وقياس العائد على الاستثمار (ROI): يجب على إدارات الموارد البشرية تجاوز تقييمات الرضا (المستوى الأول) والعمل بشكل منهجي على قياس التعلم، وتغير السلوك، والأثر على نتائج الأعمال. إن القدرة على إثبات العائد المالي للتكوين هي أفضل وسيلة لتبرير الإنفاق وتأكيد القيمة الاستراتيجية لوظيفة التكوين.
  4. الاستعداد للمستقبل من خلال الاستثمار المدروس في التقنيات الحديثة: ينبغي على المؤسسات استكشاف وتبني تقنيات التعلم الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي لتخصيص التعلم، والواقع الافتراضي للتدريب العملي الآمن، والتعلم المصغر لتوفير المعرفة عند الحاجة. يجب أن يكون هذا التبني مدروساً ومتوافقاً مع الاحتياجات الفعلية، وليس مجرد مواكبة للاتجاهات.

9.3. رؤية مستقبلية لدور التكوين كاستثمار استراتيجي في رأس المال البشري

في اقتصاد المعرفة، أصبح رأس المال البشري هو الأصل الأكثر قيمة والمورد الاستراتيجي الأهم لأي مؤسسة. لم يعد يُنظر إلى التكوين على أنه تكلفة، بل هو استثمار حيوي في بناء وصيانة وتطوير هذا الأصل الحاسم. إن هندسة التكوين، بمنهجياتها العلمية وأدواتها المتقدمة، تمثل الأداة الهندسية التي تمكّن المؤسسات من إدارة هذا الاستثمار بذكاء وفعالية، مما يضمن قدرتها على التكيف والابتكار والازدهار في المستقبل.  

 

المراجع

 


الأكاديمية البريطانية للتدريب والتطوير. (n.d.). تقييم الأثر وقياس العائد على الاستثمار في التدريب. مسترجع من https://batdacademy.com/ar/course_details/2469/تقييم-الأثر-وقياس-العائد-على-الاستثمار-في-التدريب

 

الأكاديمية المالية. (n.d.). دورة قياس العائد على الاستثمار في التدريب (ROTI). مسترجع من https://fin.com.sa/ar/courses/measuring-return-on-training-investment-roti/info

 

الأكاديمية المالية. (n.d.). نموذج كيرك باتريك. مسترجع من https://fin.com.sa/ar/evaluation_methodology/

 

إيلاف ترين. (n.d.). 3 خطوات لاختيار أساليب التدريب المناسبة في مكان العمل. مسترجع من https://illaftrainoftrainers.com/3-خطوات-لاختيار-أساليب-التدريب-المناسبة-في-مكان-العمل-article-2273-lang-ar

 

إيلاف ترين. (n.d.). 5 خطوات لتحليل الاحتياجات التدريبية في الشركات. مسترجع من https://illaftrainoftrainers.com/5-خطوات-لتحليل-الاحتياجات-التدريبية-في-الشركات-article-2091-lang-ar

 

إيلاف ترين. (n.d.). 9 خطوات لتحسين برامج التدريب في الشركات. مسترجع من https://illaftrainoftrainers.com/9-خطوات-لتحسين-برامج-التدريب-في-الشركات-article-1776-lang-ar

 

إيلاف ترين. (n.d.). الدليل الكامل لنموذج كيرك باتريك لتقييم التدريب. مسترجع من https://illaftrainoftrainers.com/الدليل-الكامل-لنموذج-كيرك-باتريك-لتقييم-التدريب-article-216-lang-ar

 

إلهام. (n.d.). نظريات تعليم الكبار: ما هي وكيف يمكنك تطبيقها عبر إلهام؟. مسترجع من https://caramel.la/elham_lms/ZFKw62wO1/nzryat-talym-alkbar-ma-hy-wkyf-ymknk-ttbyqha-abr-ilham

 

بكه. (n.d.). العائد على الاستثمار (ROI). مسترجع من https://bakkah.com/ar/knowledge-center/العائد-على-الاستثمار-roi

 

بوعزة، ع. (2017). هندسة التكوين أهدافها ومتطلباتها في الوقت الراهن. مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، 8(2)، 75-88. مسترجع من(https://search.shamaa.org/PDF/Articles/AERsshult/RsshultVol8No2Y2017/rsshult_2017-v8-n2_075-088.pdf)

 

بوابة تكنولوجيا التعليم. (n.d.). التعلم المصغر. مسترجع من https://drgawdat.edutech-portal.net/archives/16695

 

جامعة باتنة 1. (2019). دور تسيير الكفاءات في تحقيق الأداء المتميز. مجلة الباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية. مسترجع من https://asjp.cerist.dz/en/article/86916

 

جامعة باتنة 2. (2018). واقع تطبيق الأساليب التكوينية الحديثة. مجلة دراسات وأبحاث. مسترجع من https://asjp.cerist.dz/en/downArticle/147/6/3/60810

 

جامعة بسكرة. (n.d.). محاضرات في هندسة التكوين. مسترجع من http://archive.univ-biskra.dz/moodle2022/mod/resource/view.php?id=54683

 

جامعة تلمسان. (n.d.). دور التكوين في تطوير الكفاءات في مؤسسة ميناء وهران [رسالة ماجستير، جامعة تلمسان]. مستودع جامعة وهران 2. https://ds.univ-oran2.dz:8443/jspui/bitstream/123456789/5421/1/دور%20التكوين%20في%20تطوير%20الكفاءات%20في%20مؤسسة%20ميناء%20وهران.pdf

 

جامعة تيارت. (n.d.). تسيير الكفاءات كمدخل لتحقيق الميزة التنافسية. مسترجع من https://fsecsg.univ-tiaret.dz/pubsenligne/a_nedjah_comptetences.pdf

 

جامعة الجلفة. (n.d.). التكوين. مسترجع من http://dspace.univ-djelfa.dz/xmlui/bitstream/handle/123456789/5623/الفصل%20الثاني%20التكوين.pdf?sequence=2&isAllowed=y

 

جامعة الجيلالي بونعامة خميس مليانة. (n.d.). هندسة التكوين. مسترجع من http://learn.univ-sba.dz/pluginfile.php/90192/course/summary/هندسة%20التكوين.pdf

 

جامعة الجيلالي اليابس سيدي بلعباس. (n.d.). محاضرات في مقياس هندسة التكوين. مسترجع من https://elearning.univ-jijel.dz/pluginfile.php/97546/mod_forum/post/673/محاضرات%20في%20مقياس%20%20د%20جردير%20فيروز%20هندسة%20التكوين.doc

 

جامعة الجيلالي اليابس سيدي بلعباس. (n.d.). مراحل العملية التكوينية. مسترجع من [https://elearn.univ-tlemcen.dz/mod/resource/view.php?id=9619

 

أنت الان في اول موضوع
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع