القائمة الرئيسية

الصفحات

النقل الديداكتيكي Didactic Transposition :

النقل الديداكتيكي Didactic Transposition :




حمودي نورالدين
مصطلح النقل الديداكتيكي ظهر مع   السوسيولوجي  ميشال فيري ( Michel Verret, en 1975) في عمله (Le temps des études) ثم تناوله شوفلار (Yves Chevallard) سنة 1985 في عمله بعنوان النقل الديداكتيكي :من المعرفة العاملة الى المعرفة المدرسة .ويذكر ان شوفلار تناول  هذا المفهوم من قبل وذلك سنة 1980 خلال الدورة التي قدمها في المدرسة الصيفية الأولى في تدريس الرياضيات. (Colomb, Jacques, 1986, p. 89)

مفهوم النقل الديداكتيكي:

هو مجموعة التحولات التي تطرأ على معرفة معينة في مجالها العالم من اجل تحويلها الى معرفة تعليمية قابلة للتدريس (الجوادي، 2020، صفحة 103)

اما شوفلار فيقول في كتابه النقل الديداكتيكي: " محتوى معرفة تم تحديده كمعرفة لتدريس يخضع لجملة من التحولات التكييفية التي تجعله موضوعا من المواضيع التعليمية ، هذا العمل الذي يجعل المعرفة العالمة لتصير معرفة قابلة للتدريس يسمى النقل الديداكتيكي" (Jean-Benoît Clerc, 2006).

ويلخص شوفلار أربعة ملامح أساسية لنقل الديداكتيكي:

1-   تفكيك المعرفة وإعادة انتاجها وبنائها

2-   يفصل المعرفة عن الشخص او الذات التي انتجتها.

3-   ممارسة البرمجة للمعرفة التي تستقيها والبرمجة لا تقدم المعرفة دفعة واحدة بل تنظمها داخل مقررات مرتبة .

4-   نقل ديداكتيكي يمارس تعميما للمعرفة، أي يوسع مجال تلقيها ليفتحها على قطاعات عريضة من التلاميذ (الدريج، 2011، صفحة 108)

وحسب برينو (Perrenoud) ان هناك مصدرين او منبعين  للنقل الديداكتيكي: منبع المعرفة الاتية من العلماء أو الخبراء ، ومنبع  الممارسات الاجتماعية.  (Perrenoud, 1998). فالنقل الديداكتيكي اذا ينطلق من مصدرين :

  المصدر الأول هي المعرفة المنتجة من العلماء والخبراء على شكل أبحاث ودراسات واكتشافات المبنية على المناهج البحثية العلمية في المخابر او الميدان (الواقع) باستعمال أدوات ومقاييس بحثية معدة لذلك .فهذه المعرفة محكومة باطر معرفية تٌقَولب وتفسر مخرجاتها وفق براديجمات محددة ، أيضا هذه المعرفة ليست كلها نتاج المنهج التجربي، بل هي نتاج مناهج أخرى غير التجريبية ،وعليه فان درجة صدقها محل شك ونقد ، فهي تخضع لتفسير عقل الباحث انطلاقا من استنتاجاته وتأويله للعلاقات بين متغيرات البحث  الامر الذي سيقودنا الى طرح تساؤل  منطقي وهو تاثير المنظومة المفاهيمية للباحث على تفسير نتائج دراسة معينة . فنقل الديداكتيكي في هذا الجانب يحتم علينا دراسة حالة المعرفة العالمة قبل واثناء وبعد انتاجها من طرف الباحث حتى نستطيع إدخالها في المنظومة الجامعية و  التربوية  

اما المنبع الثاني فهي الممارسات الاجتماعية والتي كثيرا ما ابعدها المختصين بالنقل الديداكتيكي عن

دائرة الاهتمام ، فالمهن المتعددة  والنشاطات الفنية من رسم ونحت  والنشاطات الرياضية  وغيرها من الممارسات التي يراد من المتعلم تعلمها تحتاج الى نقل ديدياكتيكي هي كذلك، حتى يستطيع المتعلم اكتسابها وممارستها، فشكلها الخام يحتاج لتفكيكه وإعادة بنائها بغية تسهيل عملية التدريب للمدرب والمتدرب على السواء و على الرغم انه لا يمكننا الفصل بين المعرفة والممارسة فإننا سنحاول ان نبين تمييز هذه الممارسة الاجتماعية  اثناء نقلها الى الوضعية التعليمية   وسنتطرق لهذا بالتفصيل في الفقرات اللاحقة .

مستويات النقل الديداكتيكي:

 يتفق كل من شوفلار وبرينو في عدة منشورات متفرقة ان هناك مستويين من النقل، المستوى الاول هو ما يطلق عليه النقل الديداكتيكي الخارجي وهو تحويل المعرفة العالمة والممارسات الى برامج مدرسية او منهاج الدراسي .والمستوى الثاني هو النقل الديداكتيكي الداخلي وهو عبارة عن تحويل البرامج والمناهج الدراسية إلى محتوى تعليمي يدرس في الفصل من طرف المعلم  . وهناك مستوى اخر يشير اليه برينو وهو امتلاك وبناء المعرفة والمهارات في أذهان المتعلمين. لا شك أن هذه المرحلة جديدة وحاسمة في مسار المعرفة والثقافة. من ناحية أخرى ، يمكننا مناقشة مدى استصواب تضمين هذه الخطوة الأخيرة في عملية النقل الديداكتيكي نفسها. (Perrenoud, 1998).

النقل الديداكتيكي الخارجي:

المعرفة العلمية:

يعرف هكسلي (Huxley) المعرفة العلمية بانها ذلك النشاط الذي نكتسب من خلاله أكبر قدر من معرفتنا بالظواهر، ونمارس بواسطته الضبط والتحكم في العالم الطبيعي

اما بيرسون (Pearson) يؤكد ان أن كل ميدان معرفي يعد علماً، ما دام يستخدم قواعد المنهج العلمي بطريقة منظمة. (حسني ابراهيم عبد العظيم، 2015).

فمصطلح المعرفة واسع وشامل لكل ما يَعرِفه الانسان  كما يقول زكي نجيب محمود في كتابه نظرية المعرفة لكننا نحن سنقتصر على المعرفة العلمية ،فهي المقصودة بالنقل الديداكتيكي ، فهذه المعرفة تتجاوز حدود جمع البيانات والمؤشرات الى تفسير هذه البيانات والبحث في العلاقات الداخلية  و الخارجية الممكنة حتى تصير هذه البيانات معلومات،  ومن ثم معرفة علمية تؤسس لنظرية او لمفهوم علمي . والعلم كحاجة إنسانية يسعى لحل اشكال او إجابة عن سؤال  يستخدم طرق وأساليب تسمى مناهج البحث .فإنتاج المعرفة العلمية اذا يمر بمراحل متعددة ومعقدة حسب طبيعة  السؤال او المشكلة المطروحة وأيضا حسب طبيعة المنهج المستخدم ، فكلما كان المنهج المستخدم يقترب من المنهج التجريبي كلما زادت يقينية النتائج ، هذه اليقينية محدودة ضمنيا في درجة صدقية  الأدوات المستخدمة .ومنه يمكننا تمييز أنواع  المعرفة العلمية  حسب درجة صدقيتها او ثقتنا في نتائجها البحثية فتكون العلوم الفلسفية في ادنى الهرم  والعلوم التجريبية في اعلى الهرم .فإنزال الديداكتيكي للمعرفة في العلوم الفلسفية يقتضي أدوات تختلف عن العلوم التجريبية التي مناهجها وادواتها تتسم بصدقية مقبولة وشبه متفق عليها بين المشتغلين بفلسفة العلوم .فالقانون الفزيائي يحوي علاقات بين متغيرات فزيائية في ظروف محددة وشروط واضحة ، فهو صالح مادامت الشروط والظروف حاضرة ، فقدرته التنبؤية كبيرة على خلاف العلوم الفلسفية .طبعا نحن لان نقرر ان غياب التجربة في البحث العلمي يؤول الى عدم صدقية نتائج البحث ، بل نتكلم عن مزاوجة بين العقلانية والتجربة فهما شرطان ضروريان في بناء الفكر العلمي الذي نعمل على اكسابه للمتعلم .

ويمكننا تبني نموذج بياجي  في التمييز بين الميادين الأربعة لكل علم والاعتماد عليه في عملية النقل الديداكتيكي ،فبياجي يحدد أربعة مجالات او ميادين من خلالها  نستطيع التميير بين العلوم واجراء مقارنات بينها، وهذه الميادين هي :

- الميدان المادي:الموضوع الذي يدرسه كل علم.

- الميدان المفهومي: مجموعة المفاهيم المستعملة في كل علم.

- الأبستمولوجيا الداخلية:وتهتم بالبحث في الأسس والمبادئ والنتائج التي يقوم عليها كل علم.

- الأبستمولوجيا العامة: وتهتم في البحث في الأسس المشتركة بين جميع العلوم. (عثمان، 2008، صفحة 76)

ومن خلال نموذج بياجي سنحلل المعرفة العلمية في  العلوم الإنسانية والاجتماعية  والعلوم التجريبية

ومحاولة وضع اطارا للعناصر التي  يجب استبعادها اثناء النقل الديداكتيكي ، هذا الاطار سيكون محدد حسب المستوى التدريس وحسب طبيعة الاختصاص المدرس .فالعنصر الثقافي يتم تفريغه في المستويات الدنيا  ويحتفظ به او ببعضه في المستويات العليا أي الدراسات الجامعية خاصة اذا كانت الدراسات ترتكز على المنهج المقارن في العلوم الإنسانية  الذي يتطلب المام بالثقافات الأخرى (الاخر) وسنبدأ بالعلوم الإنسانية .

أولا- العلوم الإنسانية والاجتماعية:

عرفها قاموس العلوم الاجتماعية بمجموعة "العلوم التي تدرس الإنسان داخل المجتمع، بحيث لا يمكن تصور إنسانا لوحده ولا مجتمع من دون بشر (عظيمي، 2019).

الميدان المادي:

فموضوع العلوم الإنسانية والاجتماعية هو الانسان والمجتمع والعلاقات التفاعلية بين الكل والجزء سواء تفاعلات افقية او عمودية وفق تنظيمات معينة سواء سياسية او الاجتماعية او اقتصادية ، فهي تدرس الانسان كمفردة  وتدرس الانسان كعنصر سياقي يعرف مدلوله في النظرة الكلية للمحيط .هذه النظرة تحددها الجغرافيا والتاريخ (spacetime ).هذا الانسان الذي يحوى في ذاكرته الجماعية تراكمات تاريخية وموروث حضاري يجعله يتميز في علاقته بالأخر الذي له رصيد من التراكمات والموروثات الخاصة به ، فهذا التحديد يقودنا الى القول ان العلوم الإنسانية والاجتماعية علوم محلية النتائج في نقطة زمنية محددة فهي علوم ليست تنبؤية وان تكررت النفس الظروف والشروط ، فمن الصعب التنبؤ بسلوك فرد في ظروف معينة او بسلوك مجتمع تحت حكم معين او بثورة ضد نظام حكم محدد . فغالبية الثورات كانت غير متوقعة في  مجال زمكان  spacetime . لكن بعد حدوثها يحاول المختصين في العلوم الإنسانية والاجتماعية تبرير واجاد الأسباب المباشرة والغير مباشرة للحدث ، ونلاحظ هنا أيضا اختلافات بين المحللين لتفسير نفس الظاهرة .فموضوع هذه العلوم يصعب ضبطه وتحديده من جهة ويصعب اسقاطه على الواقع من جهة اخرى .إن اختيار المواضيع التي ستخضع لنقل الديداكتيكي يعتمد على مدى إمكانية تطبيقها وتوظيفها في الواقع. وهناك امثلة كثيرة يمكننا الإشارة اليها : اختيار قصة من الادب الفرنسي ،نظرية فيلهلم رايش في التحليل النفسي ، ماركسية في الاقتصاد السياسي وغيرها من الأمثلة التي تبين المسافة بين المجتمع وموضوع المعرفة ، وطبعا تبقى جدلية العلاقة بين الواقع والمعرفة موضوعا يستدعي طرح تساؤلات عميقة حول ماهية العلاقة وجدليتها وايهما يخضع للأخر.

الميدان المفهومي:

واذا ذهبنا الى النقطة الثانية من نموذج بياجي المتعلقة بالمفاهيم نجد إشكالات ضخمة في المصطلحات المستعملة ، فكل باحث او مدرسة تبني مفاهيمها الخاصة بها ضمن اطرها المعرفية ،وهذه الأطر المعرفية هي أيضا تتولد وتُوجَد داخل اطر اجتماعية (انظر كتاب الأطر الاجتماعية للمعرفة جورج غورفيتش).فمفهوم الشرق والغرب في العقل الأوروبي يعني اكثر ما يعني الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية أي بيزنطة وروما ،بمعنى اكثر الأرثوذكس والكاثوليك ، ومفهوم الشرق الأوسط يعني جميع الدول من محور طانجة الى باكستان  وتركيا ، هذه المفاهيم عندما يتم تدريسها في المدرسة بمعزل عن مفهومها العالمي سنكون قد ساهمنا في تشويش المفاهيمي.فالشرق الاوسط عند التلميذ الذي نفترض انه يتابع شاشة التلفاز ويستمع للأخبار من مصادر مختلفة ، يعتقد وهو في الجزائر انه خارج دائرة الاهتمام في الخطاب الغربي.

فالمفاهيم المستعملة في علم من العلوم الإنسانية والاجتماعية كثيرا ما نجدها تتأصل في الامتدادات التاريخية للحضارة الغربية. فالعودة الى اللغة اليونانية لاستخراج مصطلح او مفهوم حتى ولو لم يكن المصطلح أصلا موجود، يدل بعمق عن تأصيل الفكر الغربي كامتداد للحضارة اليونانية .فهذه الترسبات في ابعادها الأنثروبولوجية تمتزج بشكل او باخر في النتاجات النهائية للعلوم ،فعلم النفس كعلم من العلوم الاجتماعية يحمل الكثير من الموروث اليوناني في مصطلحاته ك اوديب وايروس وثاناتوس فهذه المصطلحات أحيانا عند معرفة مصدر اشتقاقها نجد انفسنا في صراع  ضمني معها ، فهي تمثل تيار ضد المعتقد الخاص بنا ، فالمتعلم يجد نفسه في قطبية ابيستمولوجية خطيرة تهدد بنائه القيمي او منظومته القيمية فمثلا ثاناتوس المُعَرف في الميثولوجيا الاغريقية التي هي مجموعة الأساطير والخرافات امن بها اليونانيين يتنافى مع ما يعتقده  المتعلم كحقائق ومسلمات وبالتالي يجد نفسه امام خيارات متعددة كالرفض المطلق للمصطلح او وضعه في الحجر المعرفي او قبوله بتحفظ او تفريغه من خلفيته الميثولوجية وهذا الأخير هو ما يفعله غالبية الدارسين  ، لكن إن طرِح عليه سؤال من طرف عميل (شخص طالب للعلاج النفسي ) فيجد المختص نفسه في حيرة اثناء شرحه للمفهوم وسيزعم انه غير مطالب بالشرح لكن اخلاقيات المهنة تحتم عليه ان يخبر عميله بكل شيء وسيبحث العميل عنه أيضا ، هنا نجد ان ثقة العميل بالمختص ستكون محل تحدي نتيجة مصطلح لا يتماشى والبيئة الاجتماعية الثقافية . اذا الكثير من المفاهيم في العلوم الإنسانية والاجتماعية تحتاج الى إعادة ضبطها وصياغتها اثناء النقل الديداكتيكي .فالتعامل مع المادة الخام هكذا دون تكييفها عملية مريحة وسهلة وغير مكلفة لكن نتائجها على المستوى التعليمي والوظيفي  ستكون غير جيدة ، وهذا مايستشعر به الكثير من المختصين في العلوم الإنسانية لإدراكهم ان مكتسباتهم غير وظيفية وان لم يعلنوا ذلك .على العكس من ذلك في الدول المنتجة لهذا النوع من المعرفة العلمية ، حيث تصبح هذه المعرفة نفعية ووظيفية  ورافدا من روافد التنمية ، لأنها جاءت وأُسِسَتْ على مشاكل واسئلة نابعة من بيئتهم الاجتماعية ، وبالتالي فهي حل لمشكل محدد في زمكان(spacetime).إن المفاهيم والمصطلحات تحتل قلب المعرفة العلمية ، فغياب اكاديمية تُعنى برفع الاشكال وتحديات التي تطرحها المعرفة العلمية من الناحية المصطلحاتية والمفاهيمية أدى الى توطين كلمات خارج اللغة العربية  مما يفقد اللغة العربية هويتها وتفردها .اضافة الى غياب اكاديمية للغة العربية فهناك تحديات أخرى وهي الترجمة الفردية التي يقوموا بها افراد بإرادتهم الذاتية ، هذه الترجمة كثيرا ما تصطدم بحاجز الاتفاق بين المختصين او بين الجامعات او المعاهد او المدارس ، فكل مختص او جامعة او معهد له مصطلحاته الخاصة به وهذا نتيجة للحاضنات التكوينية للأساتذة ،فهناك من درس في فرنسا وهناك من درس في روسيا او إنجلترا او أمريكا او كندا او غيرها من الجامعات العالمية ، فجامعاتنا نستطيع القول انها مزيج بين أبستمولوجيات متعدد واحيانا متصارعة ، فالجامعة الفرنسية تختلف عن الجامعة الامريكية في تناولها الابستمولوجي لعلم النفس او علم الاجتماع او علوم التربية . وبالتالي المفاهيم والمصطلحات لا تحمل نفس المدلول في البيئتين الفرنكوفونية و الانجلوسكونية  ، فمصطلح الكفاية أوسع في البيئة الفرنكوفونية وهو شامل على خلاف البيئة الانجلوسكسونية اين نجده اكثر تجزئة وهذا راجع الى تأثير الباراديجم السلوكي في المفاهيم الانجلوساكسونية . (حمودي، 2020).

كذلك المصادر المعرفية التي ترجمت او اُعتمد عليها في التدريس في الجامعات او المدارس ، هل هي مصادر أولية ام ثانوية؟ ، فالمصادر الأولية وهي المصادر الاصلية التي كُتبت من طرف الباحثين والمنظرين للمعرفة العلمية المكتشفة ، فهي الكتب التي خطها العلماء والباحثين بأنفسهم ، اما المصادر الثانوية فهي المصادر التي اُعتمد في كتابتها على المصادر الأولية .فكلما كانت المصادر قريبة من منبع المعرفة العلمية كلما زادت درجة وثوقيتها.وهناك ايضا اشكال كبير من الناحية المصطلحاتية والمفاهيمية ، ذلك ان الاعتماد على الكتب باللغة الفرنسية كمصادر للمعرفة العلمية المكتوبة باللغة الانجلوسكسونية او الاسبانية او البرتغالية او لغات أخرى تكون محل شك في درجة دقة نقل وحفظ مدلول المفاهيم والمصطلحات كما جاءت بلغتها الاصلية .فكثيرة هي الكلمات التي لا نجد ما يقابلها في لغة أخرى فيعمل المترجم او الناقل لاختيار كلمات تقرب المفهوم ، واحيانا يقوم هو بنفسه بنحت كلمة تقريبية للمصطلح انطلاقا من خبرته اللغوية ومن درايته الوسعة بالاختصاص كما فعل الدكتور علي زيعور في اعماله، وغيره من الدكاترة الذين يعتقدون ان  للمصطلح أهمية كبرى في توطين المعرفة العلمية في المجتمع العربي .

في النهاية نقول ان المفاهيم والمصطلحات هي أساس المعرفة العلمية ولا يكون للأساس معنى اذا كان بعيدا عن لغة المجتمع المستهلك لهذه المفاهيم والمصطلحات ، فنقل الديداكتيكي الذي يهدف الى انزال هذه المعرفة العلمية الى واقع التعليم والتعلم يتحتم عليه انزالها بلغة المجتمع حتى تتفاعل مع مكوناته الذهنية والقيمية .

الأبستمولوجيا الداخلية:

وكما جاء في تعريفها انها تهتم بالبحث في الأسس والمبادئ والنتائج التي يقوم عليها كل علم ،فالمعرفة العلمية لها أسس ومبادئ تقوم عليها ، والحقيقة ان هذه الأسس هي سبب وجودها أصلا ،ذلك ان أي علم الا وله مبرره الوجودي الذي يتقاطع مع حاجيات الانسان ومع تساؤلاته عن نفسه وعن الكون .

فالنقل الديداكتيكي على مستوى الابستمولوجيا الداخلية ينطلق من تفكيك الأطر المعرفية والاجتماعية لنظرية العلمية ومحاولة تخليصها من الترسبات السياقية التي رافقت انتاجها ،فمراحل انتاج المعرفة العلمية ليست دائما على خط مستمر  ، فهناك تقطعات ونكوصات واحباطات ونجاحات تميز عملية انتاجها .فالإنزال الديداكتيكي عليه تجاوز هذه المظاهر وتركيز على المنتوج المعرفي فقط دون اخلال ببنيتها العلمية .

وتلعب البنية الذهنية للمجتمع دورا مؤثرا في اختيار النظريات والمعارف العلمية التي يتقبلها المجتمع كمادة تدرس لأبنائه ، فالمجتمع لا يقبل هكذا معارف دون تمحيصها والتأكد من انها ضرورية في حياة أفراده .فهو يلعب دور الضاغط على المختصين في البحث الديداكتيكي . هذا التأثير يتجلى في اختيار البراديجمات التي تتماشى والمنظومة القيمية للمجتمع، فالمعرفة العلمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية كثيرة ومتعددة ومتشعبة ومتضاربة في توجهاتها فسيكون من الصعب اختيار براديجم معين ،كذلك من الصعب تعليم كل هذه البراديجمات وعليه فإن محددات الاختيار هو مدى تلائمها مع المنظومة القيمية فنظرية الحرية  والسلطة و النظريات النسوية ووحدة الوجود وكثير من نظريات التحليل النفسي  والأنثروبولوجيا الثقافية والنظريات الاقتصادية والسياسية كالماركسية والفوائد البنكية كثيرا ما تصطدم بالمنظومة القيمية للمجتمع فتعليم طالب كيفية حساب الفائدة البسيطة او المركبة يجعل بنائه المعرفي في حالة فصام عقائدي أي بين الفكرة والسلوك .نفس الشيء لو فرضنا ان المدرسة او الجامعة في سويد او فلندا تريد انزال ديداكتيكي لموضوع الزواج وقام الديداكتيكي ببحث في الأنترنت ووجد موضوع شروط عقد الزواج حسب المذهب المالكي  وقام بوضعه تحسبا لإخضاعه لعملية النقل الديداكتيكي كموضوع للتعليم في هذه المدارس فكيف نتصور رد الفعل من المجتمع السويدي او الفنلندي ؟ طبعا الرفض، وقيام بفرض حجر صحي على الباحث لاشتباههم في صحته العقلية .اذا المجتمع ومنظومته القيمية هو الضامن من انحرافات النقل الديداكتيكي .كذلك هنا تطرح إشكالية فعالية المعرفة العلمية بمعني المنفعة والتوظيف ،فتدريس العلوم ليست غاية في حد ذاتها ، بل النتيجة النهائية من عملية التدريس .فالمختص قبل البدا في عملية اختيار المعرفة ، عليه ان يطرح الأسئلة المفتاحية على نفسة ماذا؟ ولماذا؟ وكيف ؟ ، تحديد الموضوع ولماذا هذا الموضوع؟ وكيف تتم عملية نقله ديداكتيكيا؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تقوده الى اختيار استراتيجية مناسبة في انزال المعرفة العلمية وتجعله في حالة يقضه أبستمولوجية مستمرة .

الأبستمولوجيا العامة:

على العموم العلوم الإنسانية والاجتماعية تنطلق من أساس اولي مشترك وهو دراسة الانسان داخل المجتمع ومن ثم تتفرع عنه تساؤلات عدة مُشكلة مواضيع بحثية ودراسية لتخصصات متفرعة عن العلوم الإنسانية والاجتماعية ، هذه العلوم المتخصصة نجد بنيتها المنهجية متقاربة بين بعضها البعض ، فالمنهج الوصفي يكاد يكون شاملا لكل تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية، كذلك منهج دراسة الحالة وان كانت في علم النفس الحالة تكون فردا ،فإن الحالة في علم النفس الاجتماعي تكون مجموعة صغيرة .وقس على ذلك التخصصات الأخرى . فالنقل الديداكتيكي عليه ان يأخذ بعين الاعتبار الامتدادات المعرفة العلمية بين هذا التخصصات ، فعلم النفس العمل والتنظيم كفرع من علم النفس يمتد معرفيا مع علم التربية وعلم الإدارة والتسيير والمناجمت وعلم الاتصال والاعلام وعلم الاجتماعي للمنظمات وعلم الهندسة ،والأرغونوميات والامن والوقاية  وغيرها من الامتدادات التي أحيانا يصعب حصرها .هكذا تقريبا غالبية العلوم  نجدها تتقاطع مع عشرات التخصصات الأخرى ، فعملية النقل هنا تفرض علينا الالمام بحد معين من المعرفة العلمية متعددة التخصصات (interdisciplinarity) حتى تسهل عملية النقل بعد تفكيك المعرفة وإعادة بنائها حسب مقتضيات العملية التدريسية دون اخلال ببنيتها العلمية ووظيفتها الاجتماعية (المعرفة تكون وظيفية تبعا لبراديجم الكفايات ).

الان بعد انتهائنا من الجزء الخاص بالمعرفة العالمة للعلوم الإنسانية والاجتماعية  سنتطرق في الجزء الثاني للمعرفة العالمة في العلوم التجريبية والنقاط التي يجب الانتباه لها اثناء النقل الديداكتيكي الخارجي

ثم بعد ذلك سنتناول المستوى الثاني وهو النقل الديداكتيكي الداخلي وكيفية بناء المحتوى انطلاقا من البرنامج او المنهاج  .

Bibliographie

Colomb, Jacques. (1986). La Transposition didactique: du savoir savant au savoir enseigné. Revue française de pédagogie, 89.

Jean-Benoît Clerc, P. M. (2006). La transposition didactique. Haute école pédagogique Vaud , 1.

Perrenoud, P. (1998). La transposition didactique à partir. Récupéré sur unige.ch: http://www.unige.ch/fapse/SSE/teachers/perrenoud/php_main/php_1998/1998_26.html

أد. محمد الدريج. (2011). معجم مصطلحات المناهج وطرق التدريس. الرباط: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

حسني ابراهيم عبد العظيم. (17 02, 2015). مفهوم المعرفة العلمية ومكوناتها. تم الاسترداد من myportail: http://www.myportail.com/actualites-news-web-2-0.php?id=6882

حمودي, ن. (2020, 10 20). مفهوم الكفاية وتطوره في علوم التربية. Récupéré sur sciencenews003: https://sciencenews003.blogspot.com/2020/10/blog-post_20.html#11

د.رياض الجوادي. (2020). مدخل الى علم تدريس المواد. تونس: دار التجديد للطباعة والنشر والتوزيعوالترجمة.

عظيمي, د. (2019). الدرس الأول العلوم الإنسانية والاجتماعية . Récupéré sur مدونة الدكتور أحمد عظيمي : http://adimiahmed.over-blog.com/

عي عثمان. (2008). بنية المعرفة العلمية عند غاستون باشلار. قسنطينة.

 

 

 

 

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع