القائمة الرئيسية

الصفحات

النقل الديداكتيكي الجزء الثاني

 النقل الديداكتيكي الجزء الثاني



حمودي نورالدين

ثانيا- العلوم التجريبية:

في تقسيم بياجيه الشهير للعلوم حسب طبيعة الموضوع، نلاحظ ان هناك علوما تتعلق بعالم خارجي او موضوع فيزيائي ، وأخرى متعلقة بالذات النفسية او المجتمعية ، او الأدوات الاستنباطية التي تسمح للذات بتمثل الموضوعات  (المنطق والرياضيات)وقد تكون متعلقة بالجسم الحي الذي يكون جزءا من العالم الخارجي ومصدرا لفاعليات الذات في الوقت نفسه مثل البيولوجيا. (طعمة، 2017)

ونقصد نحن بالعلوم التجريبية او الطبيعية  تلك العلوم التي موضوعها العالم المادي ،ذلك العالم الذي يمكن ان تستخدم معه المنهج التجريبي ، الذي يُخْضِع فرضيات وتساؤلات البحث الى التجربة ،ويستعمل أدوات لقياس متغيرات الفرضية ودرجة العلاقة بين هذه المتغيرات. فدقة القياس نستطيع إعتبارها السمة المميزة للعلوم الطبيعية عن العلوم الإنسانية.

طبعا نحن لسنا بصدد تصنيف العلوم فهذا ليس من اهتمامنا الان ، بل فقط من اجل وضع اطار لعملية النقل الديداكتيكي من خلال تحديد العلوم الأكثر تأثرا بالبعد النفسي الاجتماعي الثقافي ، وقد اشرنا ان العلوم الإنسانية اكثر تأثرا بهذا البعد ولا يعني ان العلوم المادية او الطبيعية لا تتعرض لتأثيراته لكن تعرضها اقل .

تجدر الإشارة هنا ان الرياضيات وعلم الحاسوب والعلوم القريبة منهما  ادرجناها في العلوم الطبيعية ، طبعا سيكون الامر غريبا واحيانا مشوشا من ثلاثة نواحي  :الميتودولوجية  ،الأبستمولوجية ،و الانطولوجية ، لكن هدفنا كما وضحنا فقط هو الفعل النقل الديداكتيكي ، وسنتبع نفس المنهج السابق في تحليل هذه العملية والذي يرتكز على المجالات الأربعة وهي الميدان المادي والمفاهيم و  الأبستمولوجيا الداخلية ، الأبستمولوجيا العامة.

الميدان المادي:

فموضوع هذا المجال هو العالم المادي او الطبيعي وهو يدرس العلاقات والتأثيرات بين متغيرات المادية في عالمنا الذي نحن جزء منه مرورا من عالم الجسيمات (Particle physics) الى عالم الكونيات  (Cosmology) .فهذا المجال متعدد ومتشعب ولامتناهي من المتغيرات البحثية ،وهو يزواج بين التجربة والعقلانية في بحثة ، فالرياضيات او علم الكونيات تخضع للعقلانية اكثر منها لتجربة ، وعلم الاحياء والكيماء والفيزياء تخضع لتجربة اكثر منها للعقلانية ، طبعا الرياضيات كأداة لتحليل في الفيزياء هي عقلانية ، لكن استعمالها  جاء ليفسر نتائج التجربة وليس لتحليل المجرد .ان مواضيع هذا المجال خارج الذات العارفة ،فهي في موقف الراصد للظواهر المجال بغية تحليلها وتفسيرها واكتشاف  العلاقات بين مكوناتها  ، و بذلك يصبح الاكتشاف العلمي، وفقا، لهذه الرؤية، تصحيحا لما شاع من معارف و معلومات سابقة حول ظاهرة معينة أو موضوع محدد : الثقافة العلمية تصحيح يقطع مع الثقافة المشاعة (انظر مفهوم القطيعة الأبستمولوجية لبشلار ).ومثالا على ذلك حركة الشمس المرصودة بالعين المجردة تبين ان مكان الراصد ثابت والمرصود متحرك ، هذه الثقافة المشاعة سابقا انقطعت بالثقافة العلمية المتولدة من المنهج العلمي ، وكثيرة هي الاكتشافات التي أحدثت القطيعة الابستمولوجية مع الثقافة المشاعة  الناتجة عن الخبرة الحسية .فموضوعات هذا المجال ستصطدم أحيانا مع تمثلات المتعلم ،وعليه فإن النقل الديدكتيكي عليه التنبؤ لهذه الموضوعات وانزالها بشكل يعمل على تسهيل بنائها في ذهن المتعلم .فإنزال مواضيع هذا المجال الى مستوى البرامج والمنهاج عليه ان يلتزم بمعايير ديداكتيكية حتى يتحقق الغرض من التعليم والتعلم .

معايير النقل الديداكتيكي في الميدان المادي :

-         اختيار مواضيع قابلة للتدريس(وظيفية ،براجماتية).

-         علاقة المواضيع بالغايات والاهداف المسطرة من طرف المنظومة التربوية والمجتمع.

-         تجاوز تاريخ المعرفة العلمية (نشوؤها وتطورها وانتكاساتها )والتركيز على نتائج المعرفة العلمية

-         ابعاد الشخصنة عن المعرفة العلمية .

-         العلاقة العضوية بين المواضيع على المستوى الافقي (مواضيع الرياضيات والفيزياء في نفس السنة الدراسية ).

-         العلاقة المنهجية لمواضيع السنة الحالية مع السنة السابقة واللاحقة.

الميدان المفهومي:

اشكالية المفاهيم في هذا المجال لا تطرح بالكيفية التي رأيناها في العلوم الإنسانية والاجتماعية ، لكنها تطرح من جانب اخر خاصة نحن في الجزائر او في شمال افريقيا عموما،  فالمفاهيم والمصطلحات هي مفتاح العلوم ومفتاح المعرفة العلمية ، فمن لا يملك المفتاح فان وُلُوجَه الى هذا العالم الرحب والمتشتت يكاد يكون مستحيلا او على الأقل صعبا .فاللغة الإنجليزية الان هي الأكثر استعمالا في العالم خاصة في العلوم الدقيقة على خلاف العلوم الإنسانية التي مزال الباحثون  يكتبون بلغتهم الام وهذا لطبيعة وخصوصية الدراسات الإنسانية  وذكرت دراسة (The Language of Future Scientific Communication) ان

ما يقرب من 80٪ من جميع المجلات المفهرسة في Scopus منشورة باللغة الإنجليزية. يرجع اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة عالمية للعلوم جزئيًا إلى العوامل السياسية والاقتصادية التاريخية التي فضلت اللغة الإنجليزية على اللغات الأخرى، اما في العلوم الاجتماعية والعلوم التطبيقية والإنسانيات مزال الباحثين يكتبون بلغتهم الام  .فالمصطلحات والمفاهيم بلغة الانجليزية تكتب وتدون وتترجم عنها الى اللغات الاخرى منها الفرنسية التي تستعمل كلغة تدريس في الجامعة الجزائرية هذا الامر يضع النقل الديداكتيكي في مازق مفاهيمي ومصطلحاتي ، حيث يخضعه للأكاديمية الفرنسية مباشرة عبر قواميسها وبالتالي تصبح المصادر المعرفية مصادر ثانوية وليست اولية وما يحمله هذا من اثر معرفي وديداكتيكي ، فاختيار لغة الموضوع ليست من صلاحيات الديداكتيكي بل هي من صلاحيات السلطة السياسية ، لكن المختص بعلم التدريس يمكن ان يقدم مشورة في هذا الامر بحكم اننا نتكلم عن جودة مضامين  التعلم والتعليم .فالتدريس بلغة الإنجليزية سيجنب المتعلم الكثير من المشاكل المعرفية المتعلقة بمستقبله كباحث او فاعل ومنتج للمعرفة العلمية وليس فقط كمستهلك لها  ، فنشر المعارف العلمية في المجلات العالمية يكون بلغة الإنجليزية ومطالعة احدث المقالات العلمية لا يكون الا بلغة الإنجليزية ، فالإعاقة اللغوية التي يعاني منها اغلب الباحثين الجزائريين تسجن نبوغهم وفطنتهم بحاجز لغوي،  وهذا ما يؤدي الى اهدار فاعلية النخبة في تحقيق الوثبة الحضارية للامة  .فتحكم في لغة العلم ومنهجه من المحددات الضرورية على المنظومة التربوية ان تأخذها محل جدا في قراراتها وخططها التطويرية ،وهذا لا يكون في المراحل المتقدمة من المنظومة بل في مراحلها الابتدائية حتى يتحكم المتعلم في اللغة وتصبح وعائه المعرفي .

فالنقل الديداكتيكي في هذا المستوى عليه ان يرتكز على معايير معينة حتى تتماهى المفاهيم مع تمثلات المتعلم  في المستوى الثالث من النقل .فاختيار المصطلحات والمفاهيم الدقيقة والموحدة في سياق علمي محكم تجعل المتعلم يتجاوز العوائق المعرفية في هذا المجال، وتحصر طاقته في عملية البناء المفاهيمي  لا في عملية الترجمة التي تكون في الغالب مشوشة .فانزال المعرفة من منشورات علمية الى المناهج الدراسية يستوجب وجود قاعدة مصطلحية ومفاهيميه موحدة ومتفق عليها ومعتمدة من الجهات الرسمية حتى لا يشتغل الناقل بتحديد المصطلحات والمفاهيم  بل يسعى الى البحث في بنية المفاهيم وكيفية جعلها قابلة لتعلم والتعليم في سياق اجتماعي معرفي للمنظومة التربوية .

الأبستمولوجيا الداخلية:

تعدد مواضيع هذا المجال يجعل تناول الأسس والمبادئ والنتائج هكذا اجمالا ضربا من الجنون المعرفي والغير العقلاني ، ذلك ان الأسس والمبادئ والنتائج في علم الكونيات تختلف عنها في العلوم الحيوية  والعلوم الشكلية  والكيمياء ،لهذا كان لديداكتيك تخصصات متعددة بتعدد مواضيع المعرفة فهناك ديداكتيكية الرياضيات ، ديداكتيكية اللغة الإنجليزية ،ديداكتيكية الفيزياء وهكذا. فكل علم له خصائصه وميزاته في نقل المعرفة العالمة الى مستوى المعرفة  المُدَرسة. فإنزال الأسس التي تبنى عليها المعرفة في مستويات المرحلة الثانوية والجامعية يكون اكثر من ضروري ذلك ان المتعلم يفترض انه في مرحلة التفكير المجرد ، فهو قادرا نظريا على استيعاب المعرفة المجردة واسسها ومنهجها .فإذا كنا نركز في مرحلة المتوسطة وما قبلها على نتائج المعرفة فقط ،فإن المرحلة الثانوية وبشكل اكبر المرحلة الجامعية على الديداكتيكي التركيز اكثر على نقل المبادئ والاسس  والمنهج في المنهاج التعليمي حتى يكتسب المتعلم الفكر النقدي ويدرك الصورة التركيبية للمعرفة العلمية ، فهو الان لم يعد مستهلك فقط ، بل سيتحول الى منتج اذا وجد التربة الخصبة .فالمنهاج الجامعي عليه ان لا يكون مغلقا ،بل مفتوحا مرنا ، له قابلية التطور اللحظي ومتماشيا مع مستجدات المعرفة ، فهذه القابلية تجعله منهاجا حيا ووظيفيا ،ولا يكون هذا الا بربط قاعدة البيانات الجامعية بقاعدة البيانات العالمية ، واستحداث فرق النقل الديداكتيكي على مستوى الجامعات في شتى التخصصات تعمل على تبويب وتنظيم المعرفة في فهارس تسمح للطلبة التعرف وتزود بما يحتاجونه من الموارد المعرفية في ابحاثهم .نفس الشيء في المنظومة التربوية تكون موجهة للأساتذة والمفتشين بغية تحديث دروسهم ونشاطاتهم .

الأبستمولوجيا العامة:

وهي تهتم بالعلاقات بين مجالات المعرفة  ، فإنه من الطبيعي يقول بياجي ان يكون ترابط  بين العلوم ويقرر ان هناك نوعين من الترابطات ترابط دائري في المجالين المادي والابستمولوجي العام  و ترابط خطي مستقيم في المجالين المفهومي و الابستمولوجي الخاص (طعمة، 2017). فالبنية المعرفية لعلم من العلوم متداخلة مع العلوم الأخرى ،و مكلمة لها سواء على مستوى النتائج او المناهج او القوانين او المسلمات والبديهيات .فتناول المعلم لموضوع من المواضيع المقررة لتدريس يقتضي  ديداكتيكيا تسيجه معرفيا من حيث تحديد المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالموضوع او العابرة عبرى التخصصات ، ولا يتأتى هذا الا اذا كان النقل الديداكتيكي الخارجي اخذ معيار الأبستمولوجيا العامة بعين الاعتبار اثناء انزاله للمعرفة العالمة  .

 

المراجع

د عبد الرحمان محمد طعمة. (2017). الابستمولوجيا التكوينية للعلوم مقارب بينية للنموذج اللساني المعاصر. مجلة اللغة العربية العدد الثامن والثلاثون، 26.

 

 

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع