ضغوطات واكراهات الليبيرالية الجديدة على المنظومة التربوية
حمودي نورالدين |
منذ التسعينيات، انتقلت المقاربة بالكفايات من عالم الشغل
إلى البيئة المدرسية واستبدلت تدريجياً المقاربة القائمة على الاهداف في العديد من
الأنظمة التربوية خاصة الدول الناطقة بالفرنسية، وهذا التحول ليس خيار بل حتمية اقتصادية سياسية قبل ان تكون حتمية اجتماعية
ثقافية فتسليع التعليم وصناعة عمال ذوي كفاية أصبح من غايات التربية مع بداية هذا
القرن. ونستطيع القول ارتكازا على اقوال تيار ضد الليبرالية العالمية الجديدة Neoliberalism :(Nico
Hirtt, Marcel
Crahay, Gerard
Boutin, Philippe
Meirieu, Christian
Laval..)
ان القيم الأخلاقية والثقافية والجمالية وروح الإنسانية والمنظومة القيمية
ومتعة التعلم التي هي مفتاح لأي نشاط فكري رفيع المستوى أسقطت من غايات المقاربة
بالكفايات حتى ولو زعمت ذلك في أدبياتها المعلنة، فالحقيقة حسب كريستيان لافال Christian Laval أن هذه المقاربة
تمتْ صياغتها عبر "حوار"، حوار غير مباشر تم بين أرباب الشغل والسياسيين
والإدارة التربوية وبعض الخبراء البيداغوجيين. ولقد تم ذلك في أمريكا ما بين سنة 1980
و1990. ثم انتشر في أوروبا. وجعلتْ الدول الأوروبية من المنهج القائم على الكفايات
معيارا عالميا من خلال "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD "، ومن خلال الاتحاد الأوربي.
ويختم كريستيان لافال بقوله: أن اعتبار الأنظمة التعليمية
عبارة عن مقاولات تُنتجُ الرأسمال البشري يقتضي أن يكون المعيار العام الذي يجب أن
تخضع له المدرسة هو: القابلية للتشغيل. وانطلاقا من هذا التصور المقاولاتي للمدرسة
سيصبح الهدف الحصري للمدرسة هو: إنتاج قوة عمل قابلة للبيع. (حنان قصبي).
إذا هذا الباراديغم (Paradigm) الجديد والقديم في نفس الوقت
أصبح موضة تربوية بامتياز تتلهف عليه المنظومات التربوية لدول، فهو موسوما بـ ايزو
منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (UNESCO) وموسوما أيضا
بمصادقة الاتحاد الأوروبي عليه بعد عقد Bologne سنة 1999 الذي أدى الى ايجاد
الفضاء الأوروبي لتعليم العالي سنة 2010 وتوحيد الجامعات الوطنية مع النظام
العالمي المقسم الى ثلاثة مراحل مرحلة التدرج –ما بعد التدرج-دكتوراه. وهكذا سيكون هناك
اعتراف المتبادل بالمؤهلات.
فالموضة والوسم المصادق عليه جعل السياسيين وأصحاب القرار يسعون لاقتناء
هذا الوسم على اعتبار انه يسهل عملية الاعتراف بالشهادات الممنوحة من طرف الجامعات
المحلية وبالتالي تسهيل الحركة بين الجامعات على مستوى الأساتذة والطلبة والباحثين
وتقودنا النقطة الأخيرة الى طرح السؤال التالي: لمن وجدت الجامعة او المنظومة
التربوية ولخدمة من؟
الإجابة اظنها لا تستدعي الكثير من
الجهد، فنفس القانون الذي فرض انشاء الفضاء الأوروبي لتعليم العالي وفرض المقاربة
بالكفايات على المنظومة التربوية والتكوينية هو نفسه الذي يتحكم في اتجاه حركة
المكونة النخبوية والبحثية للجامعة، هذا القانون هو قانون السوق.
هل تستطيع الدول الافريقية ان تشتري باحثين بارعين، دكاترة مؤهلين من
أمريكا او أوروبا؟ الإجابة اظنها أيضا لا تحتاج الى خبير، لكن أوروبا تستطيع،
أمريكا تستطيع، كندا وأستراليا يستطيعان.
هل تستطيع الدول الافريقية الحفاظ على خبرائها ودكاترتها المكونين في
الجامعات المحلية والمؤهلين للعمل في أي جامعة عالمية او مركز بحث حسب الوسم مصادق
عليه من الفضاء الأوربي لتعليم العالي؟ الاغراء والتكوين اللاقيمي والمنهاج البعيد
عن غرس الأبعاد الأنثروبوثقافية يجعلنا ننظر لخريجي الجامعة
كسلع تباع للذي يدفع أكثر وبالتالي فإننا سنكون عاجزين عن إبقاء خبرائنا وخريجي
جامعتنا في اوطانهم الاصلية وطبعا سيبقى من لا يساوم عليه.
اعتقد ان النقطة الأخيرة ستكون أكبر تحدي ستواجه المنظومة التربوية في
العقود الاتية، ذلك انها ستكون محل ديالكتيك بين الغايات المعلنة والمؤسِسة
للمنظومة التربوية والجامعية والتكوينية وبين الواقع او الحقيقة الفعلية التي
تختلف عن الحقيقة المُمكنة. فتقنين البحث العلمي من خلال توحيد المعايير العالمية
من أساليب التوثيق والنشر والبحث وفرض شروط محددة ومعينة على الطلبة الباحثين
ودكاترة لكي يتم قبولهم ومنحهم صفة أستاذ او باحث والاعتراف بهم، جعلهم يتهافتون
على دوريات (محكمة)، ومجلات مُعترف بها لنشر ابحاثهم، طبعا هذه الدوريات مصنفة الى
Q1 .Q2.Q3.Q4 فالرُبع
الأول هي المجلات الأكثر اعترافا بها الى المجلات الأقل اعترافا بها ومنها من يفرِض
شروط إضافية كشهادة التدقيق اللغوي للبحث
حتى يتم نشره او شهادة احترام اخلاقيات البحث خاصة في المجال الطبي وهكذا .... كل
هذه الأشياء لا تتم بالمجان فهناك رسوم تدفع بشكل او باخر سواء كانت برمجيات
الفهرسة مثل ENDNOTE أو برنامج احصائي SPSS او برامج أخرى وهي كثيرة تُفرَض خصِيصا
على الباحث وتلزِمه باستعمالها ليست لأنها تتسم بالدقة بل تدخل في اتفاقيات بين
الناشر والمعلن. إذا مخرجات البحث في النهاية ستكون لدول التي تمتلك أرضية نشر
البحوث واحتضانها واستغلالها، وسنكون هنا كذلك في خدمة مجتمع غير المجتمع الاصلي
المؤسِس للجامعة، إننا نعيش عولمة المعرفة في اتجاه واحد، من الجنوب الى الشمال.
هذه المخاوف جعلت Carrette and Rey يقول: الانتقال من الصناعة إلى التعليم
يقلق الكثيرين ممن يرونه تدخلاً يحرم حرية التدريس، مما يمنح الغلبة للمطالب الاقتصادية
على جميع الاحتياجات الأخرى للمجتمع.
وتجدر الإشارة الى دور كل من منظمة
التجارة الدولية " World Trade Organisation والبنك الدولي" The World Bank" ورعايتهما في تسليع
التعليم وتحويل المدرسة والمنظومة التربوية برمتها من منظومة علمية واجتماعية وثقافية
وخدماتية الى مؤسسة اقتصادية هدفها المال، ففي عام 1998، استعدادًا لقمة سياتل، شكلت
أمانة منظمة التجارة العالمية مجموعة عمل لدراسة سبل تحرير التعليم. وأكدت في تقريرها
التطور السريع للتعلم عن بعد ورحبت بالشراكة بين المؤسسات التعليمية والشركات قطاع
تكنولوجيا المعلومات والاتصالات TIC. كما أشاد التقرير بالحكومات التي
تعهدت بالابتعاد عن التمويل العام الحصري والاقتراب من السوق، من خلال الانفتاح على
آليات التمويل البديلة. ( Nico Hirtt)
وحددت منظمة التجارة العالمية قائمة
بالعديد من "الحواجز" التي يجب إزالتها من أجل تحرير التجارة في الخدمات
التعليمية، من جانبه، يحاول البنك الدولي، في دول العالم الثالث، فتح التعليم العالي
والمرحلة العليا من التعليم الثانوي أمام جشع القطاع الخاص. حجة البنك الدولي بسيطة:
يجب إعطاء الأولوية في البلدان النامية لمحو الأمية. ويصر على إعادة توجيه الإنفاق العام. من التعليم
إلى التعليم الأساسي او القاعدي والذي يعني تعلم بسيط كـ: القراءة والكتابة وقدراً
مناسباً من المعارف والمهارات والقيم والاتجاهات التي يحتاج إليها في الحياة والعمل
ومواصلة التعليم. ومن الضروري تشجيع اللجوء إلى القطاع الخاص، إما لتمويل المؤسسات
الخاصة أو لتكوين إيرادات إضافية لمؤسسات الدولة.
في يونيو 1999، في واشنطن، نظم البنك
الدولي، مؤتمرا بعنوان: فرص الاستثمار في التعليم الخاص في البلدان النامية قام بتوعية
المستثمرين المحتملين بالإمكانيات التي يوفرها السوق التعليمي في البلدان النامية.
وفي سوق التعليم العالمي الأول في فانكوفر في مايو 2000 كان البنك الدولي حاضرا. وفي
ندوة واشنطن، أعرب جاك ماس Jack Maas، أخصائي التعليم الرئيسي في مؤسسة
التمويل الدولية " SFI"، عن إعجابه بمثل هذه المدرسة
الثانوية في غامبيا، والتي تقدم "تعليمًا عالي الجودة" بمبلغ 300 دولار أمريكي
سنويًا. "إنها نعمة من السماء. يمكننا حرق 300 دولار في الليلة في فندق غربي،
لذا فهي صفقة حقيقية. هل من الضروري أن نتذكر أن متوسط الدخل السنوي لسكان غامبيا يبلغ
950 دولارًا أمريكيًا ...؟
الفصل الثالث
رأينا في الفصل الأول جذور
المقاربة بالكفايات ثم الفصل الثاني ملخصا للضغوطات والاكراهات التي تمارسها الليبرالية
العالمية على المنظومة التربوية، سنرى في هذا الفصل المقاربة بالكفايات في
المنظومة التربوية.
دعنا الان نرى هذا المفهوم عن قرب
ونحاول فهمه وتحليله اعتمادا على المنهج الوصفي التحليلي من جهة ومن جهة أخرى
سنستعين بمنهج تحليل المحتوى وهما كافيان لتقديم صورة نوعا ما شاملة وصادقة لهذه
المقاربة
مفهوم المقاربة بالكفايات
مفهوم المقاربة: هي أساس نظري يتكون من مجموعة من المبادئ
يتأسس عليها البرنامج أو المنهاج، ومنه فالمقاربة هي الطريقة التي يتناول بها الدارس
أو الباحث الموضوع، أو هي الطريقة التي يتقدم بها من الشيء(tarbiapointcom)
وتعرف كذلك بـ الطريقة التي يتناول بها موضوع ما
وتمثل الإطار النظري الذي يعالج قضية ما.
والمقاربة في التعليم تعرف على انها الكيفية العامة
او الخطة المستعملة لنشاط ما وترتبط بأهداف معينة، والتي يراد منها دراسة وضعية،
او مسالة او حل مشكلة او بلوغ غاية معينة او الانطلاق في مشروع ما. (زوليخة علال)
مفهوم الكفاية:
تمت مناقشة مفهوم الكفاية بالتفصيل في الفصل السابق
تحت عنوان مفهوم الكفاية وتطوره في علوم التربية. وسنعيد ما كتبنا في
هذا الفصل:
الكفاية عند التيار الفرنكفوني:
فيليب بيرنو يعرف الكفاية بانها: القدرة
على تعبئة مجموعة من الموارد المعرفية (معارف، قدرات، معلومات.) بغية مواجهة جملة من
الوضعيات بشكل ملائم.
اما جيلي فالكفاية هي: نظام من المعارف
المفاهيمية (الذهنية والمهارية العملية) التي تنتظم في خطاطات إجرائية تمكن في إطار
فئة من الوضعيات من التعرف على المهمة-الإشكالية –وحلها بنشاط وفعالية.
حسب وزارة التربية الكيبيكية 2001 الكفاية
هي: حسن التصرف savoir-agir المؤسس على تعبئة واستنفار مجموعة من
الموارد واستخدامها.
اما بالنسبة للقسم الفرنسي من بلجيكا
فالكفاية هي: القدرة على تشغيل مجموعة منظمة من المعارف والمهارات العملية والمواقف
من اجل انجاز عدد من المهام) مرسوم المهام 2000.
تعريف دوكتيل" وروجرز" (De Ketele et Roegiers.2000) أن "الكفاية هي إمكانية تعبئة -بكيفية باطنية -لمجموعة مُندمِجة
مِن الموارد؛ بهدف حلِّ صنف من وضعيات -مسألة.
اما جونائير Jonnaert الكفاية هي "أن يستخدم شخص في وضعيةٍ ما، وفي سياق محدَّدٍ مجموعة متنوعة
ومتناسقة مِن الموارد، استخدامًا ينبني على تعبئة واختيار وتنظيم هذه الموارد، وعلى
عمليات مُلائمة تُمكن مِن معالَجة ناجِحة لهذه الوضعية".
الكفاية والتيار الانجلوساكسوني:
اما التيار الانجلوساكسوني فان مفهوم
الكفاية امتزج الى حد كبير مع مفهوم الأهداف وفي مرات عديدة لا نستطيع التميز بين الهدف
السلوكي والكفاية فنجد في منهاج واحد مئات الكفايات التي ماهي الا انعكاس لتأثير القوي
لتيار السلوكي على المنظومة التربوية الامريكية رغما هذا حسب فيليب جونير ان هناك تقدم
في التقارب بين التيار الانجلوساكسوني والفرانكوفوني خاصة مع تطور مفهوم الوضعيات في
الولايات المتحدة حيث يقول: الدور الحاسم الذي ادته –الوضعيات-في تطور تصور مفهوم الكفاية،
فقد قلبت الوضعية من جديد، اتجاه القوى المتفاعلة المؤثرة في تطور هذا المفهوم وارغمت
المختصين في علوم التربية على اتخاذ مواقف أكثر اتساما بالنسبية واقل اتصافا بالمعيارية
والالزامية والقبلية، اثناء مقاربتهم للمناهج الدراسية من منظور الكفايات.
ومما سبق يبدو واضحا تعدد الآراء حول مفهوم الكفاية ويقول فيليب برينو: لا أحد
يُنكِر أنه لا يوجد تعريف توافُقي لمفهوم الكفاية، البعض يرى أن هذا التوافُق غير ضروري،
والبعض الآخَر يرى أن التمييز بين الكفاية والقدرة واهٍ ويختلف من مؤلف لآخَر (د. مولاي
المصطفى البرجاوي)
وفي النهاية نخلص الى التعريف الذي قدمه روجيرس X.Rogers وهو كما يلي: الكفاية هي إمكانية الشخص
في تجنيد بطريقة متداخلة لمجموعة من الموارد المدمجة من أجل حل عائلة من الوضعيات مشكلات. وهذا التعريف أكثر
إجرائية وتحديد ويسمح بوضع مفهوم الكفاية في اطارها التربوي.
إذا يمكننا ان نستنتج من التعاريف السابقة ان الكفاية
هي:
موارد يتم تعبئتها لحل وضعية مشكلة
يتبع .....
المراجع
-BOUTIN, Gérald et Louise JULIEN, L’obsession des
compétences.Son impact sur l’école et la formation des enseignants, Montréal,
Éditions Nouvelles, Collection « Éducation », 2000
-Nico Hirtt –L’approche par compétences : une
mystification pédagogique1 octobre 2009
Nico Hirtt Les trois axes de la marchandisation
scolaire 12 juin 2001
-Marcel Crahay; Dangers, incertitudes et
incomplétude de la logique de la compétence en éducation
- حنان قصبي: مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي الأساس السياسي-الاقتصادي للمناهج لتربوية ودورها في الفشل الدراسي المنهج القائم على الكفايات نموذجا 2018 / 1 / 21
-فيليب ميريو: لا تربية بدون متعة التعلم حوار جريدة لوموند
الفرنسية أجرى الحوار Nicolas Truong نشر بالعربية على موقع
التلفزة المغربية ترجمت مراد كراخي 10/05/2019
-Rencontre avec Philippe
Meirieu: “La pédagogie n̕est pas une science”, Propos recueillis par Romania
Rinaldi & Héloise Lhérété, Sciences Humaines, N° 313,
Avril 2019
-Christian Laval : "l’école est au centre des
nouvelles luttes des classes Mercredi 28 Septembre 2011
humanite.fr/christian-laval-lecole-est-au-centre-des-nouvelles-luttes-des-classes.
Entretien
avec Christian Laval Christian Laval, Pascal Sévérac Dans Rue Descartes 2012/1 ° 73), pages 88 à 102-
-Christian Chauvigné et Jean-Claude Coulet; L’approche par compétences : un nouveau paradigme pour la pédagogie universitaire ?
-Carrette, V., & Rey, B. (2010). L’approche par
compétences. In Savoir enseigner dans le secondaire. Didactique
générale (pp. 63-104).Bruxelles, Belgique: De Boeck.
-زوليخة علال:تعليمية نشاط التعبير الكتابي في ضوءالمقاربة
بالكفاءات,مذكرة الماجستير جامعة فرحات عباس 2009-2010
-فيليب جونير: الكفايات والسوسيوبنائية إطار نظري
- د. مولاي المصطفى البرجاوي المقاربة بالكفايات. مدخل
جديد لتطوير المناهج التعليمية 2014
- يرجى اطلاع على تقرير
:
البنك الدولي للإنشاء والتعمير/البنك الدولي:
توقعات وتطلعات إطار جديد للتعليم في الشرق الأوسط وشمال إفريقي سنة 2018 نشره على
الموقع التالي / https://openknowledge.worldbank.org
، وكيف يعالج قضية التعليم في منطقتنا العربية
الدكتور سعد العنزي: دور الموارد غير الملموسة في تعزيز أداء مكاتب المفتشيين العامين
L’éducation de base :
Vers une nouvelle école; Conférence des ministres de l’éducation des pays ayant
le français en partage CONFEMEN 1995, CONFEMEN, Dakar
تعليقات
إرسال تعليق